في حقيقة المشهد السياسي في سوريا
صالح محمود
حقيقةً، هناك أشياءٌ حدثت وتحوّلات جرت، وفي شتى المجالات منها سياسية، ومنها اجتماعية تتعلق بالوضع المعيشي وبالحياة اليومية في سوريا، لا يدري بها أحد ولا يقدّرها سوى الذي عاشها في هذه البقعة الكئيبة من العالم، كثيرون أولئك الذين لا يتصورون حجم المأساة التي كنا نعيشها قبل سقوط النظام، أولئك البعيدون في أوروبا أو في دول الجوار أو حتى في مناطق مثل شرق الفرات بحكم المكان طبعاً، لقد كانت المناطق التي يسيطر عليها النظام سجناً وجحيماً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، سجنا كبيراً، والسجناء فيه يتعذبون ويموتون بصمت دون أن يشعر بهم أحد.
لقد وصلت الأمور إلى درجة أن الكل بات يبحث ويخطط للهرب بعيداً، شيباً وشباباً وصغاراً. أصبح الخروج من هذا البلد الذي لا يطاق هدفاً وحلماً للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب.
تصوّروا معي شعبٌ حي تعداده بالملايين بات مخنوقاً ومحبوساً في عنق زجاجة وفي وضع مزرٍ جداً، ومما لاشكّ فيه إنّ المسؤول الأول عن وصول الحالة إلى هذه الدرجة من الكارثية هو نظام الأسد بفروعه الأمنية وعصاباته ومافياته، وإذا بالحال يتحول وفجأةً وبشكل غير متوقع ودون سابق إنذار، ويستفيق الشعب السوري في فجر يوم جديد ويرى هذا الأخطبوط قد رحل ورحل معه كل أنواع الاستغلال والابتزاز والمسخ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
فبمجرّد غياب الديكتاتور ظهرت مشاعر مختلفة وأحاسيس لذيذة، فبرحيله غابت عنا تلك الثقافة المقيتة التي رافقت النظام لمدة خمسين عاماً، ثقافة قبيحة كقبح النظام، شبيبة، طلائع، بعث، تشبيح، سجون، علونة، كبتاغون، استغلال، ترهيب، تعذيب، تضييق على البشر وقمعهم، لقد كانت أياماً عصيبة وتخلصنا منها إلى الأبد فلم نعد نسمع أغاني تمجّد الأسد.
لقد كنا نعيش في زمن تداعت فيه القيم والأخلاق وحتى الإنسانية، أما الآن فالحالة مختلفة تماماً، ، ويوجد ارتياح عام ولا مبرر لكلّ هذه البروباغندات التي تُثار ضد هذه السلطة الجديدة فهؤلاء مُطعّمون بالأخلاق النبيلة والطيبة التي تجعلك تقبلهم وتفضّلهم على الأوغاد الذين فروا، لقد فرّ الإرهابيون الحقيقيون، وولوا، والذين يظهرون غير هذه الصورة هم مضلّلون وبعيدون عن الحقيقة، ولم يتصوّروا بعد حجم الراحة التي ولّدتها قدوم هؤلاء وفرار أولئك، ولا يقدّرون حجم الخير الذي انتشر، فباختفاء أولئك الزعران وهروبهم؛ بشار وماهر والنمر ومن لف لفهم أحلوت الحياة والأيام، أليست هذه من أكبر الفضائل والنعم؟ فهذا الانقلاب الكبير في الوضع لا يحسّ به إلا من عاشه وجرّبه، لقد عادت لنا روحنا وكرامتنا بعد رحيل ذلك الطاغية المخبول والمتجبر ونظامه، والشعب السوري منحت له فرصة العيش بحرية، ولن يسمح بعودة أي رمز من رموز النظام البائد لأنهم مثّلوا على الدوام الوجه المشوّه والقبيح للبلد، لقد كانوا مصّاصي دماء وناهبي كل خيرات هذا البلد الذي لولا قدرة الله لما سار يوماً واحداً، لقد انطوت صفحة من صفحات المأساة السوداء التي لن تتكرر.
لن يغيب عن ذاكرتنا إنه في عهد النظام البائد تحوّلت المؤسسات الرسمية للدولة كالمالية والتموين والجمارك ومراكز الشرطة والجوازات الى وسائل وطرق لابتزاز الشعب واستغلاله لقد شكلت هذه المؤسسات مصادر لإرهاب الناس وعصا للجباية والتخويف.
الاستغلال والابتزاز لم يكن مقتصراً فقط على فئة معينة من الشعب بل شمل الكل، لا فرق الكل في جحيم، فالسوريون المقيمون بهذا البلد كانوا رهائن وأسرى محكومين بالبقاء مكرهين، وبالمعاناة القاسية والمستمرة حيث لا حيلة ولا مفر، لقد وصلت الأمور إلى درجة من المأساة حوّل الناس إلى ذئاب تنهش بعضها ببعض، لقد باتت السمسرة والاستغلال والابتزاز عنواناً دائماً للحياة اليومية في هذا البلد والحالة الاجتماعية وصلت إلى أقصى درجات الاختناق والسوء، وبلغت أشد المراحل قتامةً وسوءًا فالعاصمة دمشق مثلاً حيث أعيش شهدت حوادث غريبة قبل أشهر من سقوط النظام مثل رمي الأجنّة قرب حاويات القمامة وأمام مداخل الأبنية، لقد تكرّرت هذه الحادثة في الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط النظام والأسباب كثيرة، ولكن يبقى الفقر والعوز واليأس وضيق العيش الأسباب الرئيسية لمثل هذه الحوادث لقد كنا نعيش حالة من الاختناق العام لدرجة أصبح الحصول على مقعد في وسيلة نقل عامة مكسباً عظيماً، لقد أصبح الازدحام عنواناً عريضاً للحياة اليومية في عاصمة مثل دمشق، ازدحام في كل مكان في الكراجات أمام الأفران في دوائر ومؤسسات الدولة وعلى الحواجز حيث الرشوة والفساد، لقد بلغت الرشوة أقصى درجاتها وبلغ الفساد أعلى مراحله وانعدمت فرص العيش والعمل، واتسعت رقعة التشرد وأصبح في كل شارع مئات المتسوّلين والعجزة والمعوقين، وفجأة ودون سابق إنذار اختفت كل هذه المظاهر وزالت،" فالغليظ إذا غادر أو خرج فكأن شخصاً فاتناً دخل" هكذا أصبحنا، هذا بالإضافة إلى شيء هام جداً كان مهيمناً على عقولنا جميعاً وهو عدوى السفر خارج القطر، لقد زالت، واختفت هذه العدوى إلى الأبد وآلاف الشباب المطلوبين الذين كانوا سجناء في بيوتهم وأحيائهم خرجوا منها أحراراً طلقاء وأصبح العائدون إلى البلد أعدادهم هائلة.
نعم لقد انفُكت القبضة الأمنية، وتلاشت!،تلك القبضة التي لم يسلم منها أحد، لقد انفرجت الأوضاع أخيراً عن شعبٍ كاد يموت ويفنى.
فُتحت أبواب السجون، وخرج السجناء الذين لم يكن يحلموا أن يروا الضوء مرة أخرى، وهذا الذي سردناه هو جزء من حقيقة المشهد السياسي والاجتماعي في هذا البلد، وبالرغم من العيوب والنواقص إلا أنه بات الوضع مريحاً لدرجة كبيرة.