الفردية والمؤسساتية في سياسة ترامب
دوران ملكي
منذ بداية تشكل الدولة الأمريكية المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وحتى الآن تنتهج المنهج المؤسساتي في إدارة الدولة حيث يعتبر السياسيون القدامى والرؤساء السابقون بالإضافة إلى هيئة المخابرات الأمريكية كمرشدين للرئيس الأمريكي، فعصارة فكر هؤلاء توضع على طاولة الرئيس المنتخب، ويوجد دائماً حيز للمناورة والحركة وأحياناً تتوسع حتى يظن المراقب بأنها شبه دكتاتورية كما في عهد ترامب الأول والثاني حيث يسود على قراراته طابع الارتجالية عن طريق التصريحات على وسائل التواصل الاجتماعي مثل منصة x وجنوحه نحو الفردية وغروره وسعيه الدائم على إظهار شخصيته.
يحاول بشتى الوسائل تأسيس شيئاً لذاته من خلال سعيه المتواصل إلى حل عقد العالم والخلافات الدولية ليصل إلى درجة تتويجه بجائزة نوبل للسلام دون أرضية حقيقية أو تفكير سليم بوسائل الحل المجدية، فمنذ استلامه للرئاسة في دورته الانتخابية الثانية يحاول جاهداً ولم ينجح في واحدةً منها لا في الصراع الروسي الأوكراني ولا النزاع العربي الإسرائيلي ولا لمسار التفاوض مع ايران وتقويض البرنامج النووي الإيراني لأن تفكيره يغلب عليه الطابع المالي والاقتصادي فكونه رجل المال والأعمال لا يستطيع التفكير إلا بما يدر عليه نفعاً.
من الإنصاف أن نقول أنه يعاني من عقدة الصين ودول بريكس أكثر من أي شيءٍ أخر لأن هؤلاء يضغطون على الجرح الأمريكي المتمثل في الوقوف في وجه العملة الأمريكية الرائدة ومحاولة التخلص من أعبائها واستبدالها بعملة أخرى في التعاملات العالمية إما بعملة موحدة لدول البريكس أو استبدال الدولار بالذهب كما كان سابقاً وهذا ما يدل على إقبال كثير من دول العالم على شراء الذهب مما أدى الى ارتفاع أسعاره بشكلٍ جنوني مما دفع بترامب إلى اللجوء للمساومة مع دول العالم لحل مشاكلها مقابل ثرواتها الباطنية من نفط ومعادن نادرة لتقوية الاقتصاد الأمريكي وتجاهل الإستراتيجيات الأمريكية في التعامل مع الأعداء والأصدقاء، وتخطيه للخطوط الحمراء من ناحية التعامل مع الإسلام السياسي وتجاوز عقدة مواجهة أشباح الظلام من القاعدة وداعش وإهماله للحلف العالمي لمواجهة الإرهاب مقابل قطع الطرق الدولية أمام التجارة الحرة واستغلال الأزمات الدولية خدمة لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي دورته الأولى أدار الظهر لاستفتاء إقليم كوردستان، وسمح للحشد الشعبي وللجيش العراقي وايران بضرب البيشمركة التي كانت شريكاً للتحالف الدولي ضد الإرهاب ودفعت ثمناً باهظاً في مواجهة التنظيم الإرهابي مقابل أطماعٍ في نفط العراق، وسلم العراق بالكامل إلى إيران وأثنى على الحكومات الشيعية رغم خرقها للدستور العراقي وكذلك تخليه عن قوات سوريا الديمقراطية وسلم سري كانيه وكري سبي إلى نظام أردوغان بسبب حصوله على مكاسب شخصية في تركيا وتوقيع عقود مع شركة بيرقدار للطائرات المسيرة وتحييد تركيا تجاه الصراع العالمي الدائر والدولة الوحيدة التي لا يستطيع ترامب المساس بأمنها هي إسرائيل.
وحدثت الكثير من الأمور التي تشير إلى جنون عظمته لكي يستطيع أن يعلق لنفسه صورة على لوحة عظماء العالم وكلها بأساليب فظة وأحياناً ساذجة إذ يمدح خصمه حتى يبادله المديح.
لا يستطيع أحدٌ التكهُّن بما سيطرحه غداً؟ وما القرارات التي سوف يتخذها؟ وأي حليف سوف يسقط واي عدوٍ يزكّى وكل هذا أمام مرأى ومسمع الدولة العميقة في أمريكا.
اشتدت المنافسة العالمية كثيراً مما أدّى إلى تشكيل أحلاف جديدة لمواجهة سيطرة الولايات المتحدة على زعامة العالم الاقتصادية والعسكرية، وبذلك تنصح المعاهد البحثية الرئيس الأمريكي بإعطاء الأهمية لهذا الجانب أكثر من غيره لأنه إذا سقط الدولار سقطت أمريكا فهو أقوى سلاحٍ في مواجهة الخصوم.
اليوم يتم المساس بالدولار من قبل الصين وروسيا والهند والبرازيل ومن لف لفهم من الضعفاء الذين يحاولون الاصطياد في الماء العكر مثل تركيا والسعودية وباكستان وغيرهم بهدف ابتزاز أمريكا لذا نرى التخبط واضحاً في السياسة الخارجية من ناحية إعطاء الوعود لهؤلاء المرتزقة على حساب أهدافها الإستراتيجية وخططها المستقبلية، فهي تسعى إلى تشكيل أكبر خلف من الدول ذات السيادة لتقويض دور الحلف المضاد فلا أهمية اليوم لمواجهة أشباح الظلام مقابل أن تصل الصين إلى الأسواق الأوربية بأقصر الطرق فلا عجب أن يتم مغازلة تركيا ورئيسها على حساب أعضاء حلف مواجهة الإرهاب، وسيكون هذا التأثير مباشراً على الوضع الكوردي في سوريا إذ تحاول تركيا بشتّى الوسائل ألا يكون هناك إقليم كردي أشبه بإقليم كوردستان حتى لا يخرج الوضع من تحت سيطرتها بالمقابل تحاول الولايات المتحدة جاهدة من أجل التوصل إلى اتفاق سريع بين الرئيس المؤقت أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية والوفد الكردي المنبثق عن مؤتمر قامشلي للقاء السياسي مع دمشق وإيجاد صيغة مناسبة للتفاهم بعيداً عن مصطلحات الفيدرالية حتى ولو كانت بمضمونها والإبقاء على سوريا دولة شبه مركزية لكي لا يتم جذبها من الأطراف وتبقى حلالاً خالصة للولايات المتحدة الأمريكية وتسكت بها أيضاً تركيا.
في هذه الأثناء تحاول الدولة العميقة في تركيا على جعل سوريا على شكل أقاليم إدارية فضفاضة جغرافية فيما إذا حدث وتحولت سوريا إلى دولة لا مركزية فلا يستطيع الكورد بالوسائل الديمقراطية نزع أي قرارٍ في إقليم يضم الحسكة والرقة وريف دير الزور الشرقي لصالح الشعب الكوردي كما لا يستطيعون نزع أي قرار في إقليم شمالي يضم حلب وعفرين لأن الأغلبية السائدة ستكون عربية.
أمام هذه التدخلات في الشأن السوري ستصل الولايات المتحدة إلى شكلٍ يرضي الجميع بشكلٍ جزئي ويغلق الملف السوري لكي تتفرغ للملف اللبناني، وتكلف أحمد الشرع بنزع سلاح حزب الله اللبناني فيما لم يتم الاتفاق بالطرق السلمية.
لكن مهما صال الرئيس الأمريكي وجال لا يستطيع أن يتجاوز الخطوط الحمراء، ويضر بسياسة الولايات المتخذة تجاه حلفائها الإستراتيجيين والتي لم يصبحوا حلفاء لها لو لم يكن لهم دور وثقل في استراتيجياتها المستقبلية.