الهيمنة الناعمة واستراتيجية تفكيك الغلوّ القومي العربي
أحمد آلوجي
تشهد المنطقة العربية في العقدين الأخيرين مرحلة إعادة تشكيل جذرية لموازين القوى الإقليمية والدولية، تقودها الولايات المتحدة بأساليب وأدوات متعددة تجمع بين السياسة والاقتصاد والأمن والإعلام، في إطار ما يمكن تسميته بـ «الهيمنة الناعمة». فبينما كانت السيطرة في الماضي تُمارس عبر التدخل العسكري المباشر، باتت اليوم تتحقق عبر منظومة دقيقة من التحالفات والاتفاقيات والشراكات التي تُقدَّم ظاهريًا بوصفها ضمانات للاستقرار، بينما تمثّل في جوهرها آليات لإدامة النفوذ العسكري والسياسي.
منذ نهاية الحرب الباردة، اعتمدت واشنطن سياسة تقوم على «الهندسة الجيوسياسية» للشرق الأوسط، من خلال بناء شبكة من المصالح والارتباطات التي تجعل القرار العربي، خصوصًا في الخليج، مرتبطًا عضوياً بالمصالح الأمريكية. وتتمظهر هذه السياسة في الاتفاقيات الدفاعية وصفقات التسليح الضخمة والاستثمارات المشروطة، التي تحوّلت إلى أدوات ضغط تضمن استمرار الاعتماد الأمني والاقتصادي على الولايات المتحدة. وبينما تُقدَّم هذه الترتيبات كضمانة للاستقرار، فإنها في الواقع تُعيد إنتاج التبعية وتُضعف القدرة على بناء منظومة أمن عربي مستقل.
لقد أضعفت الحروب المتتالية في العراق وسوريا وليبيا ولبنان، إلى جانب تجفيف مصادر القوة في مصر، البنية القومية التي شكّلت يومًا ما توازنًا أمام المشروع الإسرائيلي. ومع هذا التآكل، تحوّلت إسرائيل من كيان مهدَّد إلى طرف محوري في معادلة الأمن الإقليمي، مدعومة من واشنطن، وبات التطبيع معها يُسوَّق كضرورة لمواجهة «التهديدات المشتركة» مثل إيران أو الجماعات المسلحة.
ولم تكن تركيا، رغم موقعها الجيوسياسي وطموحاتها الإقليمية، بمنأى عن ضغوط واشنطن. فبرغم عضويتها في حلف الناتو، واجهت أنقرة سياسات الابتزاز الأمريكي عبر العقوبات والتهديدات الاقتصادية متى تجاوزت الحدود المرسومة لها. وهكذا، بدا التحالف مع الغرب رهانًا غير مضمون.
وفي المقابل، يأتي هذا التحرك الأمريكي في إطار صراع أوسع لاحتواء التمدّد الصيني المتسارع في الشرق الأوسط. فمع توسّع مبادرة «الحزام والطريق» وتوقيع بكين اتفاقيات اقتصادية وبنى تحتية مع دول الخليج وإيران، تسعى واشنطن إلى تكبيل المنطقة باتفاقيات أمنية واقتصادية تحدّ من انفتاحها على الصين، حفاظًا على تفوقها ومصالحها الاستراتيجية في هذه المنطقة الحيوية.
غير أنّ العوامل الخارجية لم تكن وحدها وراء هشاشة البنية العربية. فقد أسهمت الأنظمة السلطوية والشمولية في إضعاف المناعة الداخلية من خلال الفساد، واحتكار السلطة، وتهميش المكوّنات القومية والثقافية وعلى رأسها القومية الكردية. أنتج هذا الواقع توترات مجتمعية مزمنة جعلت المجتمعات العربية أكثر عرضة للضغوط والتدخلات الخارجية. وهكذا، تضافرت التبعية السياسية مع الاستبداد الداخلي لتشكّل بيئة مثالية لتمرير مشاريع الاختراق والهيمنة.
رغم هذه الصورة القاتمة، بدأت بعض بوادر الأمل تلوح في الأفق العربي، عبر محاولات محدودة للتصالح بين الدول وشعوبها. فإقرار الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، والاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية ثانية في عدد من دول المغرب العربي، يشكّلان تحولًا نوعيًا نحو الاعتراف بالتعددية الثقافية بوصفها ركيزة للوحدة الوطنية. وفي السياق ذاته، فإن انطلاقة عملية السلام في تركيا مع الشعب الكردي، والاتفاقات المبدئية بين الحكومة الانتقالية في سوريا والمكوّن الكردي، والتي أتت بجهود مضنية من قيادات إقليم كوردستان في هذا المنحى، كل هذا يعكس توجهًا متزايدًا نحو بناء موزاييك سياسي واجتماعي متصالح. هذه الخطوات، وإن كانت أولية، تعبّر عن بداية وعي جديد يرفض قيود سايكس-بيكو المتهالكة، وتؤسس لمنظومة إقليمية أكثر انسجامًا مع تطلعات شعوب المنطقة إلى العدالة والمواطنة والكرامة.
إن ما يجري في الشرق الأوسط اليوم لا يقتصر على إعادة تموضع سياسي، بل هو مشروع هيمنة ناعمة لإعادة تشكيل الوعي العربي، واستبدال فكرة الغلو القومي بمنطق «السلام الاقتصادي» و«الاندماج الإقليمي» الذي يخدم الأمن الإسرائيلي والمصالح الأمريكية.