اللغة المعيارية (وفق منظور انطونيو غرامشي)
علي جزيري
ما من شك أننا نواجه اليوم إشكالات موضوعية وأخرى ذاتية، على صعيد إنجاز لغتنا المعيارية المنشودة، تتمثل في تعدد لهجاتنا وتنوُّع ألفباءاتنا، ونخوض على هذا الصعيد غمار مواجهة السياسات الشوفينية التي تنتهجها الأنظمة المتحكمة بمصيرنا، والتي تستميت لتبخيس لغتنا الكردية ومحاربتها بشتى السبل، بهدف طمس هويتنا القومية في المآل الأخير.
كل ما ذكرناه، يدفعنا للاحتكام أمام رؤية غرامشي، الذي سبق أن واجهت بلاده إيطاليا معضلة شبيهة بمعضلتنا نحن الكرد. كان المذكور شاهداً على التفاوت بين لهجتي الشمال والجنوب، أعني الشمال الإيطالي المتطوّر اقتصادياً وجنوبها الأقل تطوراً، فاستطاع غرامشي بحسّه المرهف وثقافته الموسوعية وبصيرته الثاقبة تشخيص واقعه، وتمكّن من قراءة إشكالية تعدُّد اللهجات في بلاده معللاً إياها بالتفاوت جرّاء التطور التاريخي بين الشمال والجنوب، ومن هذا المنطلق رفض رفضاً قاطعاً فرض لهجة إقليم (توسكاني) الشمالي على كل إيطاليا وفق دعوة "مازوني"، وتبنى موقف "اسكولي" المعارض انطلاقاً من أن اللغة المعيارية لا يمكن فرضها قسراً، رغم إدراكه تماماً أن التوسكانية كان لها باع طويل منذ القرن 14 الميلادي وحتى القرن 16 الميلادي، ولها عباقرتها من أمثال "دانتي"، فضلاً عن التقدم الصناعي والازدهار التجاري الذي شهده إقليم توسكانا، إلى درجة أن تجار الإقليم كانوا يبيعون منتوجاتهم بأسمائها التوسكانية في كل أنحاء إيطاليا...!
ولعل المتأمل يستشف في ضوء مقاربة معضلة إيطاليا السالفة الذكر أن تعدُّد اللهجات في لغتنا الكردية - رغم ما يشكله هذا التعدد من ثراء من جهة - له أسبابه التي تكمن في تفاوت الظروف التاريخية بين أجزاء كوردستان، ولا مندوحة من القول أن أسباباً عدة أخرى ساهمت في تبلور هذا التفاوت في ظل الحصار والعزلة المفروضة على الأقاليم الكردية، ناهيك عن الجغرافيا الطبيعية بتضاريسها المتنوعة والمعقدة التي عمقت من هذا التفاوت في الماضي، والحدود السياسية المجزِّئة لبلاد الكرد، فضلاً عن الغزوات وهيمنة دول الجوار التي دفعتنا للانكماش في جحر اللهجات المحلية، وما زاد في الطين بلة تأخُّر بروز البرجوازية الكردية مما لعب دوراً سلبياً في تفاقم المشكلة، ناهيك عن "الإسلام السياسي" الذي اتخذته الأنظمة المتحكمة مطية لزرع بذور تخدير الكرد وكبح نمو وعيهم القومي.
لكنْ ما ذكرناه، ينبغي ألّا يدفعنا للتخندق وتسييس المسألة، بل يستوجب بالضرورة التحلي بضبط النفس وتأمل هذه القضية وفق رؤية تاريخية شفافة، كيلا نهدر طاقاتنا في معارك هامشية، فنحن على يقين أن الكثير من هذه الإشكالات اللغوية التي نواجهها اليوم عانت منها أمم أخرى، والمستقبل كفيل بإيجاد الحلول الناجعة مستقبلاً بكل تأكيد، وبالتالي فإن الأمر لا يبرر أن تكون اللغة المعيارية المتوخاة ذات ولادة قيصرية بأي شكل من الأشكال، مثلما يدعو إليه عدد من المثقفين واللغويين في إقليم كوردستان، الذين باتوا يمتعضون من الألفباء اللاتينية في شمال وغرب كوردستان... فمازال هناك متّسع من الوقت للبحث عن حلول ناجعة، من لدن أصحاب الاختصاص من سائر أرجاء كوردستان.
وبات الاقتداء بحكمة الراحل سعدالله ونوس ضرورة لا مناص منها حين قال في يوم المسرح العالمي: "إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ".