منفى الفكرة.. نورالدين زازا وذاكرة الإنكار

منفى الفكرة.. نورالدين زازا وذاكرة الإنكار

خوشناف سليمان

ثمّة أسماءٌ تمرّ في التاريخ الكردي كأنها ومضات لأفكار لم تأخذ بها، لا لأنّها عجزت عن التحقّق، بل لأنّ المحيط رفضها، من بين هذه الأسماء يقف نورالدين زازا، المفكر والمناضل الذي حاول أن يجعل من العقل الكردي مشروعًا إنسانيًا لا أيديولوجيًا، وأن يحرّر السياسة من سطوة الانفعال.
لكن الرجل الذي عاش في المنفى، ومات فيه لم يُنفَ من وطنه فقط، بل من ذاكرة الحركة السياسية التي كان أحد مؤسسيها، في قصته، تتقاطع سيرة الفرد بسيرة الفكرة، ويظهر المنفى كقدرٍ للفكر حين يرفض أن يكون تابعًا.
- طفولة المنفى وبذرة الوعي
لم يولد زازا في زمنٍ يسمح بالانتماء الكامل، كان المنفى أول معلمه، والاغتراب أول لغته، في طفولته، تشكّل وعيه من مزيجٍ من الخوف والحنين، ومن إدراكٍ مبكر أن الهوية الكردية ليست شعارًا يُرفع، بل جرحًا يُعاش،
تعلّم أن الوطن لا يُختصر في الجغرافيا، بل في الفكرة التي تمنح الجغرافيا معناها، وحين غادر قريته الصغيرة نحو المجهول، حمل معه سؤالًا لم يفارقه أبدًا، لماذا يخاف الكردي من أن يكون حرًّا؟
التكوين الفكري: المنفى مختبر الحركة في أوروبا، حيث درس العلوم السياسية، واجه زازا العالم بعين الكردي الذي لم يزل يبحث عن نفسه، لم يكن مفتونًا بالغرب، بل مأخوذًا بفكرة القانون والحرية التي تُنتج الإنسان، أدرك هناك أنّ الوعي لا يُستورد، وأنّ الحرية لا تُمنح، بل تُكتسب بالمعرفة.
كان يرى أن التحرر القومي يبدأ من تحرر الفرد من الجهل والخوف، وأنّ الأحزاب إن لم تكن أدوات لتوسيع الوعي، ستتحول إلى سجون جديدة.
- العودة الى الشرق وصدام الحلم بالواقع
حين عاد إلى سوريا، كان يحمل حلمًا واضحًا، بناء حركة سياسية كردية حديثة، لا تعيش على الشعارات بل على التفكير النقدي، شارك في تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا عام 1957 واضعًا نواة لفكرٍ ديمقراطي يقوم على التعدد والاعتراف، لكن الواقع كان أقسى من الحلم، الحزب الذي أراده منبرًا للتنوير تحوّل تدريجيًا إلى جهازٍ يخاف النقد، ويفضّل الولاء على الفكر، ومع الوقت، وجد زازا نفسه غريبًا بين رفاقه، كما كان غريبًا في وطنه الأول.
- المنفى الثاني: لوزان بوصفها ذاكرة بديلة في لوزان، لم يبحث عن وطنٍ بديل، بل عن ذاكرةٍ جديدة يمكن أن تحتمل فكرته، كتب سيرته لا ليؤرّخ لحياته، بل ليحاكم صمته وصمت الآخرين، رأى أن أخطر ما يصيب الشعوب المقهورة هو اعتيادها على النسيان، وأنّ الذاكرة التي لا تتجدد تموت ببطء.
في منفى الكتابة، ظلّ يحاور وطنًا لا يسمعه، ومن بين الأسطر، كان يعيد بناء فكرة الكردي الحرّ الذي لا يحتاج إلى إذنٍ ليكون ذاته.
- إهمال الحركة السياسية
لم يكن نسيان زازا من قبل الحركة الكردية محض صدفة، بل فعلًا متعمدًا صادراً عن خوفٍ من المرآة، كان وجوده يذكّرها بأنها انحرفت عن مشروعها الأول، وبأنّ الحرية التي تنادي بها لا مكان لها في ممارستها،
أقصته الأحزاب لأنه لم يكن قابلاً للترويض، ولأنّ استقلاله الفكري كان يهدّد البنية القائمة على الطاعة، وهكذا، جرى تحويل المفكر إلى هامشٍ، والهامش إلى منفى جديد.
- الفكرة التي لم تجد ورثة
لم يترك زازا حزبًا قويًا ولا تيارًا واسعًا، لكنه ترك سؤالًا مؤرقًا.
هل يمكن للكرد أن يبنوا مشروعًا سياسيًا عقلانيًا دون أن يقتلوا فيه الفكر؟
سؤال لم يفقد راهنيته، لأنّ ما أراده الرجل لم يكن سلطة جديدة، بل وعيًا جديدًا، أراد أن تكون السياسة امتدادًا للأخلاق، لا وسيلةً للنجاة، لكن أحلامه بقيت يتيمة، تمامًا كما بقي فكره.
- الفكر والحرية
آمن زازا أن التحرر القومي لا معنى له إن لم يبدأ بتحرير الإنسان من قيوده الداخلية، كان يرى في الهوية الكردية طاقة للتنوّع، لا أداة للإقصاء، أراد أن يربط بين الكرامة الفردية والكرامة القومية، وأن يُدخل العقل الكردي في زمن المساءلة بدل التمجيد، كان يدرك أنّ أخطر أعداء الكرد ليس من يحتلّ أرضهم، بل من يصادر عقولهم باسم القضية.
- في الثقافة الكردية، كما في ثقافاتٍ أخرى عاشت القمع، هناك ميلٌ دائم إلى تقديس الرموز التي لا تُربكنا وإهمال المفكرين الذين يعرّون عجزنا، لذلك لم يكن زازا مناسبًا لأسطورة البطل، لأنه لم يرفع سلاحًا ولم يخطب في الجماهير، بل رفع الفكر في وجه القطيع.
إن إنكاره كان وسيلة لحماية الذات الجمعية من الأسئلة التي لا تريد سماعها، فالمجتمعات التي لا تحتمل النقد تفضّل دفن نقّادها بدل الإصغاء إليهم.
- المنفى بوصفه استمراراً للفعل
لم يكن منفى زازا نفيًا للفعل، بل استمرارًا له بوسائل أخرى، في وحدته، كتب أكثر مما قاله في حياته العلنية، كانت الكتابة وسيلته الوحيدة لاستعادة ما سُرق منه المعنى، في كلّ صفحة من سيرته، ثمة نغمة صبرٍ هادئة كأنه يقول لن يُهزم الفكر ما دام يكتب نفسه في العزلة، ومن هناك من لوزان البعيدة ظلّ يكتبنا جميعًا حتى ونحن ننساه.
- استعادة الغائب
إن إعادة الاعتبار له ليست فعلاً رمزيًا، بل ضرورة فكرية، لأنّ الوعي الكردي لا يمكن أن ينهض دون مصالحة مع رموزه الفكرية المنفيّة.
كل محاولة لتحديث السياسة الكردية ستبقى ناقصة ما لم تبدأ من حيث انتهى زازا من فكرة أن الحرية لا تُختصر في رفع العلم، بل في قدرة العقل على أن يكون حرًا.
- منفى نورالدين زازا لم يكن جغرافيًا، بل وجوديًا، عاش ومات وهو يبحث عن مكانٍ للفكرة في عالمٍ لا مكان فيه للفكر، لقد أراد أن يعلّمنا أن المنفى الحقيقي ليس في الأرض التي تُقصينا، بل في الوعي الذي يرفض أن يسمع نفسه، ومنفى زازا سيظلّ رمزًا لذلك العقل الذي اختار الحرية على الانتماء، والصدق على الولاء، والإنسان على الحزب.