ما معنى أن يكون المرءُ حراً؟

ما معنى أن يكون المرءُ حراً؟

صالح محمود

لقد خيّر الله الإنسان بعد أن خلقَه، وأكمل خلقه، وأعطاه العقل، فهو حرٌ بأيّ اتجاه يسير، وله مطلق الحرية فيما يفعل، وفيما يسلك من طرق ومسالك، ووضع اللهُ الإنسانَ في قلقٍ دائمٍ وحيرة أبدية، ولكنه لم يلغ إرادته على الإطلاق من خلال ترك الكثير من الأمور ليقرّر مصيرها بنفسه.
لقد أراد الخالق للإنسان أن يكون سيّد نفسه ومسؤولاً عن تصرُّفاته وأعماله، لقد خلقه حراً طليقاً، فالله يدرك تماماً قيمة الحرية لذلك منحها لعبده، والإنسان بدون حرية لا معنى لوجوده وحياته.
المناخ المناسب للكائن البشري هو تحت ظل شجرة الحرية «حيث تكون الحرية يكون الوطن» فالمرء يستمد وجوده وقيمته من الحرية، أنا حرٌّ إذاً أنا موجود، بمعنى أنا لي كياني الخاص وذاتي وشخصيتي، وكيف يكون للمرء كيان وذات وشخصية إذا لم يكن حراً؟ فالحرية هي مغزى الوجود ومغزى كل شيء، وأن تكون حراً يعني أن تكون مسؤولاً عن نفسك وذاتك، وأن تبتعد عن الصفاقة والنفاق والتملق، ولا تعني الفوضى على الإطلاق والشعوب التي تفقد حريتها تكافح، وتعمل المستحيل لاسترجاعها واستردادها من جديد، لأن البشرَ عموماً بعد أن يصلوا إلى مرحلة من الوعي يدركون حاجتهم الماسّة إلى أن يعيشوا أحراراً..
«الفكر عندما يستيقظ لا يمكنه التخلي عن الحرية» فالحرية في هذه الحالة تصبح حاجة أو ضرورة، لذلك تُستنفر من أجلها كلّ القوى والطاقات التي تدمّر أي شيء يقع في طريقها «لا يوجد مستبدون حيث لا يوجد عبيد»
ففي حضور الحرية وتحقيقها وتعميمها لا تقوم ثورة، أما إذا تغّيبت فتوقع كلّ شرٍّ وكل أمرٍ سيء، واعلمْ أن هناك ألسنة لهب تحت الرماد سوف تظهر في لحظةٍ ما، وقد أدرك فولتير ذلك حينما قال: «يصبح الإنسان حراً لحظة تمنيه ذلك»
لقد ألّف سارتر كتاباً عن الوجود والعدم وربط فيه الوجود بالحرية، والعدم بغيابها، ذلك الغياب الذي يحوّل الحياة إلى مسخ مشوه لا معنى له.
كل شيء جميل في هذا العالم هو ثمرة للحرية، وكل هذا التطوُّر العمراني والصناعي والزراعي والتكنولوجي، وفي مختلف المجالات هو حتماً نتاج للعقل الحر، فالعبودية والاستبداد لا يولّدان سوى القهر والظلام.
الأنظمة التي لا تضع اعتباراً لمسألة الحرية والتي تسلب من الشعوب حريتها، عليها أن تحسب حساباً في يومٍ ما لتمرّد هذه الشعوب وتفجّر إرادتها وعليها أن تعي إن هذه الشعوب في لحظةٍ ما سوف تنتفض في وجهها وتتمرد عليها لتسترد روحها وأنفاسها.
في رواية «شرق المتوسط»، يتساءل الروائي السعودي الراحل عبد الرحمن منيف: لماذا لا يقرأ الجلادون التاريخ؟!
لو أنهم قرأوا جزءاً من الأشياء التي يجب أن يقرؤوها لوفّروا على أنفسهم وعلى الآخرين الشيء الكثير، ولكن يبدو أن كل شعب يجب أن يدفع ثمن حريته، والحرية أغلب الأحيان غالية الثمن.
(وقدرنا أن نحيا على هذه الأرض، شرق البحر الأبيض المتوسط.)
هذا مع إنّ عملية كبح جماح الحريات تحتاج إلى آلة قمع قوية وعنيفة وإلى بذل جهودٍ جبارةٍ، وكذلك إلى تكاليف مادية وبشرية طائلة، ومع ذلك، فالأنظمة الديكتاتورية والمستبدّة تنحاز إلى هذا الخيار الصعب أكثر من غيره، وهنا تكمن المشكلة «ونادراً ما يكون المستبدون أحراراً فهموم وأدوات استبدادهم تستعبدهم».
لقد أدركت المجتمعاتُ والحكوماتُ الغربيةُ هذه المسألة منذ أكثر من قرن وتجاوزتها بتأسيس أنظمة حكم ذات طابع ديمقراطي حر، حيث الكلمة الفصل فيها تعود للشعوب، وكانت هذه من عوامل قيام نهضتها وحضارتها.