غصة أب

  غصة أب

عبدالحميد جمو

ما إن أسدل الليل ستاره حتى تأهب الأب مرتدياً كامل ثيابه كجندي عقائدي، مؤمناً بقضيته، واهباً نفسه للذود عنها، يحمل عصا بيده، يجوب أرض الدار جيئة وذهاباً كحارس أسندت إليه مهمة وهو حريص على القيام بواجبه.
وضع كرسيه الخشبي أمام المدخل، يرتاح عليه كل هنيهة، ثم يعاود جولته، ينظر إلى أطفاله الغاطين في سبات عميق نظرة شفقة وعجز، وهم يفترشون الأرض، وراح يغطيهم خشية البرد، رغم أن أغطيتهم لا تقيهم برد الشتاء، ويتّجه صوب زوجته التي ترقد قلقة تتقلب في فراشها تنظر إليه وهو يحدق في ساعة الحائط بوساطة "بيل" يحمله في يده يسلطه أحياناً على وجوه الأطفال، ليتأكد أنهم متدثرون، وأحياناً أخرى يسلط الضوء على أرض الدار التي يسودها ظلامٌ موحشٌ، يفتح الباب ينظر إلى السماء كأنه يدعو إلى الله، وما يلبث أن يغلقه، ويجلس على مقعده، يدخن لفافة، ويعود ليواصل جولة جديدة، تستمر به الحال إلى أن يبرق الفجر، فينادي أهل بيته، لاجتماع صباحي مقدّس، يتلو عليهم نشرة الصباح، يقسم بينهم المهمات، ويفتح الباب، يودع كلاً منهم على حدة، بدمعة، ويشدد عليهم ألا يعودوا قبل تنفيذ مهماتهم
يوزعهم على الطوابير الطويلة. أولى المهمات يجب أن تسند إلى من بلغ سن الرشد ليؤمن أسطوانة الغاز، وهذه المهمة لا تسند إلا للرجال الذين يعتمد عليهم، فهي تتطلب معركة طاحنة قد يدفع الداخل فيها حياته ثمنًا. ويرسل الآخر لمحطة الوقود البعيدة نسبيًا، وهو يعلم أن مهمته محفوفة بالمخاطر. فالفجر بزغ، نعم لكن الشوارع مظلمة ولا توجد فيها أية إنارة، فلا كهرباء في المدينة كلها.
لكم نحتاج لدومري حتى يوقد المشاعل، بما إن العدوان التركي أعادنا الى العصور الوسطى، الكلاب الشاردة تملأ الشوارع وابنه الصغير لايزال طفلاً لا يستطيع الدفاع عن نفسه، خصوصاً وإن مقصده ناء خارج المناطق السكنية، هو يعلم، ويعرف كذلك أنه قد يتعرّض لمخاطر أشد، فالذئاب البشرية أكثر خطورة من الحيوانات، رغم ذلك فهو يكوي الجرح بالملح.
يحث زوجته على إعداد الفطور للبنات الثلاث اللاتي يعملن في جني القطن، وتزويدهن ببعض ما يسد الرمق، فيوم عملهن طويل وشاق، يطلب منها ألا تنسى أن تزودهن كذلك ببعض الأسمال، فالبرد شديد وليس له قدرة على تأمين الدواء الذي تضاعف سعرُه أضعاف إن مرضن لا سمح الله.
يمسك هو بيد طفله الصغير الذي لا يتجاوز عمره السبعة أعوام وهو نصف نائم يجره، والطفل يبكي. يتوجه به نحو مخبز الحي القريب من منزله. يوقفه في الطابور، يوصي بعض جيرانه كي ينتبهوا الى الطفل، ويذهب هو لمخبز آخر حتى يحصل هو وطفله على كمية تكفيهم لآخر النهار. الكمية المخصصة لا تكفي أفراد أسرته.
بعد مدة عاد هو حائزاً على جائزته التي سعى لها، وجلس يأكل بعض الرغيف متوتراً، ينتظر الآخرين مضى الوقت ولم يعد أحد من أولاده.
يحسب الوقوف في طوابير المحروقات والغاز يتطلب وقتًا قد يطول، ولكن الطفل الصغير تأخر كثيراً، انشغل باله وأخذت الأفكار تعصف برأسه، فهب مسرعًا باتجاه المخبز وما إن وصل ورأى المنظر حتى انفجر باكيا.
الطفل الصغير يجلس وحيداً مسنداً ظهره لحائط المخبز، وهو نائم وفي يده رغيفان من الخبز، وبالقرب منه ثمة كلبان جاثيان كأنهما يحرسانه.