امتهنتُ التجارة

امتهنتُ التجارة

عبدالحميد جمو

لربما خلقتُ بتشوّهات بصرية، فعقلي يفسّر كل ما يراه، بعكس حقيقته، هكذا يقال لي.
أخطأت في تقدير الكثير من الأمور التي قد تبدو بديهية لأصحاب النظرة الثاقبة الذين لهم صلات بالعالم السفلي، فحسب وصفهم أنا عليل قصير النظر، أُفرغُ الأشياء من محتواها، أُعرّيها، لذلك فأنا أشذُّ كثيراً عن الجميع، فلي منحاي الخاص وأثق بما أقوم به ومتأكد من صحته.
دون سواي آمنت بالربيع، واعتكفت في محرابه أفترش الأزهار مصلاة، أقتبس من ألوانه نور البسمات أُفرقها وأوزعها على النواصي بين الأطفال العراة.
أخذت من رونق ألق بعض النفحات. أهبها للأحياء القاصية عن العالم المنسي، هبة لرجالات أسميهم.
أعود في نهاية يوم عبادتي محملاً بالأرباح. خرجي مملوء بضحكات الأطفال والكثير من أدمع الرجال التي أينعت في المقل. التقطتها قبل أن تسقط، لتزهر ربيعاً تبور به تجارتي التي أكسب من ورائها لقمة الضمير.
استمرّت بي الحال، وتجارتي مثمرة إلى أن هجرني الربيع دون سابق إنذار، قد يكون أُجبر على الرحيل، ولم يتحمّل لحظة الوداع.
تفاجأتُ بنفسي وسط زوابع وعواصف، مترنحاً كتلك الورود التي رافقتني ورافقتها مع اختلاف جذري، فهي كلما اهتزت نثرت العبير، لكن ترنُّحي بلا رائحة بلا ابتسامة ما كان إلا بداية لسقوط موجع قذفني لأرض غريبة جرداء، بلا فضاء، شبيهة بالصحراء، هي الأرض ذاتها التي كانت تنبت الإباء قبل أن يحل عليها الخريف، ويستوطن فيها.
بساتينها باتت سوداء لا حياة فيها تركت بلابلها أعشاشها. وهجرت النسور قممها بعد أن شاركتها الغربان، كلُّ الوجوه فيها غريبة غير مألوفة، رغم أني أُميزهم، هم أولئك الأطفال الذين كبروا في الأزقة مع علب الدخان والمحارم ومسح زجاج السيارات، ما زالت ذاكرتي تحتفظ بملامحهم البريئة رغم تبدلّها لقساوتها، أما فرسانها فهم ذواتهم ساكنو تلك الأحياء المقصيون عن العالم، فالموقع لازال متحجراً في مقلهم المتعبة، وهم يحاولون إخفاء حقيقتهم لكن مسرى الأدمع على الوجوه تفضحها الشمس.
أولئك الأطفال كبروا. تمردوا حدت طباعهم براءتهم. أصابها الشحوب استهوتهم الأحقاد والضغائن باتوا يسدون مجرى الأنهار التي تسقي الورود ويذيبون الثلوج في المستنقعات الملوثة، ليمنعوا الطيور من الارتواء. والرجال تحولوا لأشباح يكرهون النور يختبئون خلف الظلال. يقطعون أغصان الأزهار. يحرقونها ليستمدوا منها الدفء في صحرائهم مناظر مرعبة، أطفال أبرياء عاشوا الشقاء باتوا رجالا بلا قلوب،
ومن كنا نحسبهم رجالًا سقطت عنهم صفة الرجولة فباتوا أشباحاً.
في هذا التناقض المخيف كنت أرتجف ألماً، وسط العواصف العمائية والرعود. أصابني برق صحّح نظري العليل أصبحت أرى الحقيقة وضوح الشمس، أيقنتُ أنّ كلّ ما كنتُ أقوم به لم يكن صواباً، لكن ضميري الذي نشأ في ظل الضحكات يأبى تغيير منحاه، ويرفض السير مع التيار ليستقر في المستنقعات.
نعم ركدت تجارتي لكني احتفظتُ بسمعتي كتاجر، اشتهر بشراء الدموع ونثر الضحكات.