النزوة

النزوة

حليمة حسين

اختفت المقاعد خلف معمعة الأجساد الشاحبة، المحركات تعزف أصواتاً غريبة، تصدح ضمن خيوط السجائر ونفحات الغبار المتناثرة هنا وهناك، رائحة الماضي مندمجة في مسامات الحاضر بقوة، المقاعد كبيرة وواسعة بإمكاني أن اتّخذ بداخلها الهيئة التي تناسبني وأتكئ عليها بكل أريحية.
خلعتُ حذائي ووضعته جانباً، أصابع قدمي عابسة غاضبة، تتناقر فيما بينها، انكمشت بكامل جسدي داخل المقعد، كجسمٍ هلامي لا أستطيع إلا أن أتحرك كلما ازدادت ساعات الرحلة، كاد ظهري يصرخ من الألم، تفككت أجزاؤه كمقصورات القطار، تتناثر وتعود من جديد عند حركة اصطداماتها معاً ، اضطررتُ لرفع قدماي نحو الأعلى في محاولة لاسترجاع طاقتي المهدورة وتجنباً لانتفاخهما.
حولتُ نظري الى الممر الممتد على طول المقصورة، كانت أعناق المسافرين على جنبات المقاعد، تتمرجح في أحلامها على أنغام معزوفات الضجيج العالية، وامتدت بعض الرؤوس الفضولية تتلصص الأحداث، كدتُ أغمضُ عيناي، لولا رنة ضحكة أيقظت نعاسي البليد، استدرت نحوها، تجمّدت الدماء في عروقي للحظةٍ، أخذتني الدهشة من يدي بعيداً عن جسدي عن مقعدي وعن جميع الأصداء، لألملم صور الذكريات الغائبة ، كما كنت في السابق لم تتغير، إلا أن ربطة العنق تلك أضافت إليك ملامح جديدة لا تشبهك، ترتدي بدلة رسمية، تجلس بهدوء شاعر تلقي نظراتك قصائد نثرية، ويجيد ثغرك الأخرق صنع ابتساماتٍ دبلوماسية ، لم تنتبه لوجودي وأنا أسترق النظر إليك.
ابتسمت روحي المنهكة ابتسامة حنين دافئة، وأنتشى جسدي المتعب برعشة اشتياقٍ مجنونة، مزقتها مخالب قطةٍ ما شككت للحظةٍ بأنك سيدها، قطةٌ في العقد العشرين، تجيد المداعبة، تدنو وتبتعد في حركاتٍ جد منسقة ومدروسة، تسقيك عطر أنوثتها، تجتذبك خصلات شعرها الفضية، تسقطك مخموراً فوق نبيذ شفتيها القرمزيتين، بارعةٌ في الكر والفر قطتك الشقية، بعينيها الصارختين صنعت منك كرة الصوف التي تلعب بها.
لا أدري كيف لمع في خاطري ، رصيد قصائدك وأنت تلقي بأسلوبك المراوغ على مسامعها، ماكنت تخبرني فيما مضى على أنها مشاعر حقيقية، بصرتُ من فنجانك الاسود أطيافكما معاً في الأماكن ذاتها، والتي كانت يوماً ملجأً لمواعيدنا، لم يعد مهماً إن وقعت لها على وثائق العهود والوعود، إن كانت تواقيعك كلها مزورة، يا لحماقتي وسذاجة أفكاري!! دوماً أقنعتني بأنك رجل وسيّد شرقي، وبأنني أنثى غبية، خلقت لتكون عبدة تطيع أوامر سيدها، ترتدي ثوب القناعة، وتكبل فمها بالسلاسل، ومهرةً أصيلةً حين تمتطيها، مالي أراك أيها النبيل، في حضرة أميرتك تُكاغي مثل طفل جائع، تضم بين يديك أصابعها الكرستالية، تنحني بكل إجلال، تمنحها قبلة قائظة طويلة، ثم تنظر مستسلماً الى عينيها مرتجياً منهما الرضى؟؟ بينما قلبي المنمل في صدري، لم أجد ما أواسيه به، هذا الذي كان يوماً ما ينبض بحبك، يدق طرباً لسماع صوتك، أأخبره بأن ما يراه خيانة، أو لربما تكون صداقة، بل هي على الأرجح نزوة من نزواتك.
ابتلعت جمرة تكورت في حلقي، اصطنعت اللامبالاة، اختبأت داخل مقعدي، أغمضت عينيّ عنوةً، قطعاً لم أمنعها من البلل، تحولت الى حلم فراشة، تطاردها كوابيس الظلام.
تاهت..ضاعت..أسرعت..انحدرت قليلاً .. تمايلت .. ارتفعت مجدداً .. تمزقت جوانحها .. سقطت في أحشاء الظلام