فزَّاعة النقد

فزَّاعة النقد

إبراهيم اليوسف

أمام الحجم اليومي الهائل من الكتابات الأدبية، في حقلي النثر والشعر، في ظل ثورة التكنولوجيا والمعلومات، وبعد أن صار
باستطاعة أي كاتب، بل أي شخص أن يوجد لنفسه مايشاء من أوعية ووسائل نشرإلكترونية، حيث تم تلاشي الزمن مابين لحظتي الانتهاء من الكتابة والنشر، وغدا في مكنة الكاتب أن يجمع بين دوره كمنتج للنص وكناشر في آن واحد، وانحسر دورالرقابة، بما في ذلك الرقابة الفنية والتقنية التي كان من شأنها أن تضع ضوابط لمجالات الكتابة، كافة، قد أصبحنا، فجأة، ومنذ عقد ونيف، أمام سيل يومي من النتاجات المختلفة، إذ باتت الصفحات الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي تحتضن يومياً ملايين النصوص المختلفة، حيث بات الغث يوضع إلى جانب السمين، بل إننا أمام حالة التباس شديدة، مدمرة، إذ يختلط هذان النوعان من الكتابة، إلى تلك الدرجة التي يمكن تقديم مادة هابطة، لا تمتلك شروط النشر، على أوسع مجال ممكن، وقد يتمكن صاحب مثل هذه المادة المتهافتة، الهابطة، أن يهيء لنصه عدداً لامتناهياً من القراء، وبأكثر مما يمكن أن يوفره الكاتب الأصيل.
طبيعي، إن هذه الثورة الكبرى في مجال المعلوماتية والاتصالات، حققت إنجازاً مهماً في ميدان توفير فرص النشر للكتاب أصحاب التجربة الحقيقية، بالإضافة إلى أصحاب المواهب الواعدة، بل إنه صار بمقدور أي شخص أن يؤمن لكتاباته عدداً لا متناهياً من أوعية ووسائل النشر، حيث حققت حرية النشر والرأي فتوحات كبرى، وهو ما انعكس إيجابياً على عملية القراءة، إذ تطورت عملية القراءة، نتيجة هذه التحولات الهائلة، لتحقق أعظم مدى لها حتى الآن.

ومن إيجابيات الكتابة، في ظل هذه الحالة الجديدة، أننا صرنا على موعد يومي، وعلى مدار الساعة، بل الدقيقة، وحتى الثانية، مع كتابات هائلة، يعجز القارىء عن متابعتها، ما أتاح اكتشاف كتاب جدد، وما كان لمواهبهم أن تظهر، في ظل سياسات وإمكانات النشر التقليدية، مادام أن توافر وعاء النشر الإلكتروني كسر جدار الخوف، واحتكار النشر، لذلك فقد برزت ظاهرة الكاتب/المواطن، الأمر الذي فتح المجال أمام طاقات ما كان لها أن تظهر، في الحالة العادية.
هذه الحالة الجديدة، من التكاثر المذهل لأسماء الكتاب في مختلف المجالات، بات يفرض حضور أسماء جديدة، صار بعضها يشق طريقه إلى المؤسسات الثقافية، وهذا ما جعل المؤسسة ترفد بدماء جديدة، بيد أن هذه الأسماء الجديدة، غدت أحوج إلى أن يتم تناول كتاباتها نقدياً، لاسيما إن الأسماء الدعية، صارت تختلط بالإبداعية، وهذا ما يجعلنا أمام ضرورة إخضاع إنتاج مثل هذه الأسماء للغربلة النقدية.
وإذا كان صحيحاً، أن النقد الأدبي، بأدواته، وإمكاناته التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل هذه الثورة المعلوماتية، غير قادر على القيام بأداء مهمتها، على أكمل وجه، وهوما يجعلنا في حاجة كبرى لتكوين حالة جديدة، وبالتنسيق مع المؤسسات الثقافية، والجامعات، يستطيع فيها النقد لعب دوره، على أكمل وجه، لاسيما وإن ذائقة الأجيال الجديدة باتت مهدَّدة بالتلوث من جراء انتشار الكتابات المتهافتة على نحو سرطاني، قياساً لانتشار الشبكة العنكبوتية نفسها. إلا أن المتابع للمشهد الثقافي الأدبي، يجد أن هذه الصروح الثقافية، لما تتمكن من لعب دورها المطلوب، في هذا المجال، ناهيك عن أن هناك بعض المؤسسات المعنية لاتزال تريد من النقد أن يكون ملحقاً بها، لتلميع صورتها، ودرجة أدائها، لأن بعض القائمين عليها- ولدواع وظيفية لا أكثر- يدعون إلى نقد تزييني، زخرفي، مزور، بل ينظرون بعين الريبة والحذر إلى النقد الذي يمس المادة الأدبية التي تقدم على المنابر التي يديرونها، بالرغم من أن هذا التقدير من قبل هؤلاء، أنى وجدوا، غير دقيق، البتة.