السيمفونية الحمراء...رحلة الكشف من روتشيلد إلى تروتسكي

السيمفونية الحمراء...رحلة الكشف من روتشيلد إلى تروتسكي

صالح محمود

يُعتبر كتاب السيمفونية الحمراء من الكتب التي تبدو - عند ظهورها - أشبهَ بقنبلة يسمع العالم كلّه دَويّها، فما قصة هذا الكتاب؟ ولماذا حَظيَ بهذا الاهتمام؟
الكتاب هو مجموعة أقوال أدلى بها شخص مُقرّبٌ من تروتسكي يُدعى راكوفسكي، وذلك أثناء التحقيق معه في أقبية المخابرات السوفيتية KGB في ثلاثينات القرن الماضي .
والكتاب يتألف من 400 صفحة قام بتدوينها الطبيب البلغاري لاندوفسكي الذي كان قد اكتشف أدويةً مُهدئةً للأعصاب، الأمر الذي جعل المخابرات السوفيتية تستعينُ بأدويته في تخفيف آلام الجرحى في الحروب ومن يعانون التعب النفسي أو العصبية الشديدة .
ولكن من هو راكوفسكي هذا الذي استحقّ التحقيق معه كلّ هذه الأهمية؟ راكوفسكي هو ابن تاجر من يهود بلغاريا، اعتنق الشيوعية منذ نعومة أظفاره، ونشأتْ بينه وبين تروتسكي صداقةٌ قويّة نال من خلالها ثقة تروتسكي، وقد أهّلتْهُ هذه الثقة ليصبحَ مسؤولاً مالياً للتروتسكيين جميعاً، فأصبح بمثابة الصندوق الأسود لهم، كما كان له اتصالات وعلاقات مع جمعيات سرّية كالماسونية والنورانية، كشف عنها أثناء التحقيق معه .
قرّر ستالين في ثلاثينات القرن الماضي التخلّصَ من تروتسكي لإحساسه بخطورة هذا الشخص الذي امتلك شعبية واسعة بين جماهير البروليتاريا والطبقة العاملة في روسيا وخارجها، لقد اُعتبر تروتسكي أحد أنبياء الشيوعية وأحد أعمدتها الكبار، وكانت شعبيته تضاهي شعبية فلاديمير لينين، وقد تميّز تروتسكي عن ستالين بأنه كان صاحب منهج خاصّ به في النضال، حيث كان تروتسكي من أنصار الثورة الدائمة والثورة المستمرة، وعمل بقوة من أجل انتشار الشيوعية في كلّ بلدان العالم عن طريق الثورة، في حين أن ستالين كان مع تطبيق الشيوعية وقيامها في بلد واحد هو روسيا، ومن ثم تقوم روسيا بتأييد ودعم الثورات في مختلف أنحاء العالم، وبذلك تكون روسيا هي المركز والمحور دون أن تكون غايتها إثارة الانتفاضات والثورات في العالم، لقد عارضه تروتسكي في هذا الأمر، فهو مع الثورة الدائمة والمستمرة وإقامة دول شيوعية متعددة، وكان يعمل جاهداً على تحقيق ذلك، وقد طرح كلّ أفكاره وتوجهاته في كتابه " الثورة الدائمة والمستمرة ".
لقد تبيّنَ من خلال التحقيق مع راكوفسكي أنّ هناك أسباباً أخرى للخلاف بين ستالين وتروتسكي، وهذه الأسباب هي صلب موضوع السيمفونية الحمراء، لقد قام ستالين بحملة واسعة وشرسة لتطهير التروتسكيين حتى وصل به الأمر إلى إعدام كلٍّ من كامنييف وزونييف، اللذَيْنِ كانا من أقرب الناس إلى لينين، وكانت تُسمى قيادة لينين وكامنييف وزونييف بالترويكا أي الثلاثي، وكانت هذه الترويكا تقود روسيا والحزب الشيوعي الروسي، لكنّ ستالين ضربها بيدٍ من حديد ولم يكتفِ بذلك، بل قام بنفي تروتسكي إلى سيبيريا عام ١٩٢٨ ومن هناك انتقل إلى تركيا، وبقي فيها عدّة سنوات، ثمّ انتقل بعدها إلى المكسيك، وهناك تمّ اغتياله - رغم أنّه كان يُكثر من تغيير مسكنه - حيث قُتِل بضربة فأس على رأسه .
لقد انتهى ستالين من تروتسكي، ولكن ثمّة رجلٌ لا يزال حرّاً يشغل بال ستالين وتفكيره، ولن تقرّ عينُه إلا حين يتمكّن منه، إنّه راكوفسكي المسؤول المالي للتروتسكيين وكاتم أسرارهم، والذي كان يشغل منصب السفير الروسي في فرنسا.
تمّ الإمساك براكوفسكي في نهاية الأمر، فادّعى أنّ لديه معلومات مهمّة لن يدلي بها إلا لستالين وحدَه، وحين علم ستالين بذلك كلّف ضابطاً مُقرّباً منه بالتحقيق مع راكوفسكي باللغة الفرنسية والتي يُتقنها راكوفسكي، وذلك حرصاً من ستالين على سرّية محتوى التحقيق، كما أمر بأن يقوم شخصٌ ثالث يُجيد الفرنسية بتدوين أقوال راكوفسكي واعترافاته، وهنا وقع الاختيار على الطبيب البلغاري لاندوفسكي، الذي انتزعتْه المخابرات الروسية KGB من أسرته وأولاده وأسكنوه في غرفٍ لديها، وذلك لمعرفتها ويقينها بعبقرية الطبيب وقدراته الفائقة على اختراع أدوية هم بأمسّ الحاجة إليها.
جرى التحقيق بسرية تامّة في أقبية جهاز المخابرات الروسيّ سيّئ السمعة KGB ، هذا الجهاز الذي احتفل بقتله مليون شخص بعد عام فقط من تأسيسه وتمّ توزيع الكيك والحلويات والفودكا الروسية بهذه المناسبة، رغم أنّ أغلب القتلى كانوا من الروس.
بدأ التحقيق مع راكوفسكي، وكان الأمرُ بوجوب أن تُصاغ أقواله على شكل كتاب مؤلف من نسختين، إحداها تكون لستالين والثانية لرئيس KGB ، لكنّ الطبيب لاندوفسكي زاد نسخة كربونية ثالثة له، لتُصبح ثلاث نسخ للكتاب، ولأنّ الضابط المحقق كان على درجة عالية من الذكاء فقد طلب من لاندوفسكي تحضير دواء يُهدّئ أعصاب راكوفسكي أثناء التحقيق، حتى يقول كلّ ما عنده من معلومات وبكلّ أريحيّة دون خوف، فقد رأى المحقق أنّ استخدام أسلوب التعذيب مع راكوفسكي سيؤدّي إلى اعترافه وإقراره بمعلومات غير صحيحة في معظمها، بينما يحتاج ستالين إلى حقائق لا إلى أكاذيب.
كان لاندوفسكي يحضر التحقيق حاملاً معه علبة الدواء كما طلب منه المحقّق وكان يضع قطرات منه خلسة في الشراب الذي كان يُقدَّم لراكوفسكي وقد حققت أدويته النتائج المرجوّة منها، ودامت عملية التحقيق أياماً وليالي عديدة، وجُمعت أقوال راكوفسكي على شكل كتاب قُدّم إلى ستالين وعندما اطّلع عليه قال: لا يمكن أن يُنشر هذا الكتاب في حياته لأنه سيشكل قنبلة ذرّية .
ولكن كيف خرج هذا الكتاب من أقبية المخابرات الروسية ورأى النور؟ لقد حدث هذا أثناء حصار لينينغراد الذي دام سنتين في الحرب العالمية الثانية من قبل قوات هتلر، وكان من ضمن القوات المكلفة بحصار لينيغراد - تلك المدينة المحاطة بالغابات والأشجار- فرقةٌ إسبانية تتعاون مع القوات النازية وتعمل معها، وقد لجأ أحد جنود هذه الفرقة إلى كوخ يحتمي به ووجد فيه جثة رجل بجانبها مجموعة مخطوطات وأوراق من ضمنها مخطوطة كتاب السيمفونية الحمراء، وقد شعر ذلك الجندي بأهمية هذه الأوراق فاحتفظ بها، وبعد انتهاء الحرب عاد الجندي إلى بلاده وبحوزته تلك الأوراق، حيث سلّمها لصديقٍ له كان من أكبر مالكي الصحف في مدريد، والذي عكف مع فريقه على دراستها على مدى سنتين، وبعد التوثيق الكامل والدقيق والتأكد من الأسماء التي أوردها راكوفسكي في الكتاب تمّ نشر الكتاب بالإسبانية، ونظراً لأهميته العالية تُرجم إلى أهم اللغات الأوروبية وأخذ شهرة واسعة ولم يترجم إلى العربية إلا متأخراً منذ حوالي السنتين تقريباً.
لقد تطرق الكتاب إلى سيرة النورانيين والماسونيين وآل روتشيلد وأبنائه الخمسة، وممّا جاء في الكتاب هو أنّ اولَ ثورة نورانية هي الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، وأنّ النورانيين هم الذين أتوا بتروتسكي الذي كان أحد قواد الثورة الروسية عام ١٩٠٥، وهو مازال شاباً في الخامسة والعشرين من عمره وقاد مجلس نواب العمال في بطرسبورغ ونُفي إلى سيبريا وعاد وظهر مرة أخرى، وكان يصرف آلاف الدولارات أثناء تنقلاته ويحجز في أفخم الفنادق في نيويورك، في حين أن عمالقة السياسة الروسية مثل بليخانوف ولينين كانوا لا يستطيعون حتى دخول روسيا.
لقد كانت زوجة تروتسكي الثانية ابنة أحد شركاء آل روتشيلد الذين يملكون نصف ثروة العالم، فقد قيل :" إذا كان المالُ إله العصر فروتشيلد رسوله " وآل روتشيلد يصنعون الأسلحة ويتاجرون بها، ولهم مصانع أدوية على مستوى العالم، وفي معرض سؤالهم عن هذا الأمر، ردّ أحدهم :"صديقي أعط السمّ للناس وبعْ لهم الترياق" .
يعتبر روتشيلد مؤسّس هذه العائلة، كان لديه خمسة أبناء نشرهم في أوروبا وقام بإنشاء مؤسّسة مالية لكلّ واحد منهم، وعائلة روتشيلد متّهمة بقتل ستة من رؤساء أمريكا منهم إبرهام لنكولن وجاكسون وكنيدي...، إلى جانب أحد قياصرة روسيا، وكذلك هم وراء تأسيس منظمات عالمية كالماسونية والنورانية، وتعني كلمة روتشيلد الدرع الأحمر التي تشكّل خلفيةً لكلّ الأعلام الشيوعية (العلم الروسي ،العلم الصيني..)، وترمز النجمة الخماسية التي تتوسّط العلم الشيوعي إلى أبناء روتشيلد الخمسة.
عندما غزا هتلر هولندا، سويسرا، بلجيكا وفرنسا، كان قد شكّل فرقة عسكرية مهمّتها جمع الوثائق عن النورانيين، لقد كان لدى هتلر رغبة قوية في معرفة من هم هؤلاء النورانيين؟ ومع من يتصلون؟ وماذا يريدون بالضبط؟، لقد أفلحت فرقة هتلر في ذلك وحصلت على أرشيفهم وتم تجميعه في قبوٍ تحت الأرض، وكانت المخابرات الروسية على علم بما جرى آنذاك، لذلك كان أحد أهداف الجيش الأحمر أثناء هزيمة ألمانيا واجتياحها هو الاستيلاء على هذا الأرشيف، حيث تمّ تكليف فرقة خاصة للبحث عن هذا الأرشيف، واستطاعت هذه الفرقة أن تستولي على آلاف الوثائق من أرشيف الجمعيات السرية، وتمّت ترجمتها كلّها بأمر من ستالين إلى اللغة الروسية، وقد اُعتبر جزء من هذا الأرشيف سرياً للغاية لا يطّلع عليه إلا الرؤساء والمقربون منهم، لقد كان من بينها أرشيف كلٍّ من ماركس وأنجلز وتروتسكي ولينين، وبعد عام ١٩٩١ تمّ السماح بنشر أرشيف كلٍّ من الأربعة السابقين.
لقد تبيّن بعد كشف ملف تروتسكي أنّ نسيبه الذي هو أحد شركاء عائلة روتشيلد كان قد حوّل له مبلغ عشرة آلاف دولار عندما ذهب من إسبانيا إلى نيويورك، وعندما عاد تروتسكي إلى روسيا عام ١٩١٧ أثناء ثورة أكتوبر كان يحمل معه الكثير من الأموال وقد قُبض عليه في كندا، وقال وايزمان رئيس المخابرات البريطانية آنذاك: إنّه لابد من سجن تروتسكي لأنه اُشيع عنه أنّه عميل المخابرات البريطانية، لذلك لابد من سجنه لإعادة فرمتته، وتمّ سجنه شهرين في معتقل هاري فاكس ومن ثمّ تمّ إطلاق سراحه وعندما عاد إلى روسيا كان برفقته عشرة آلاف من البلاشفة اليهود أصبحوا كحرسه الخاصّ بالإضافة الى مبالغ مالية ضخمة.
لقد أسّس تروتسكي الجيش الأحمر، وكان أصدقاء رحلته البلاشفة هم النواة الأساسية في جيشه، وأصبح لتروتسكي مهمّات عديدة بعد عودته إلى روسيا، وأولى هذه المهمات هي تدمير روسيا وإعطاء جزء من أراضيها إلى ألمانيا، ونهب الذهب الروسي لصالح ألمانيا، وتدمير الأسطول الروسي، ولا يخفى على أحد أنّ المخابرات الألمانية كانت قد دفعت مبلغ 20 مليون دولار إلى لينين، تم توصيله بقطار مغلق إلى بطرسبورج ليقوم بالانقلاب ويتسلّم الحكم مقابل إيقاف الحرب مع ألمانيا، والتنازل عن أجزاء من أراضي روسيا لصالح ألمانيا، وتعويض ألمانيا عن خسائرها في الحرب .
لقد بعث لينين تروتسكي للتفاوض مع الألمان بعد تسلّمه حكم روسيا، فقال لهم تروتسكي: كم هي خسائركم في الحرب؟ فقدّر الألمان الخسائر الحربية ب 3 أو4 مليار مارك فدفع لهم تروتسكي 7مليار مارك، وطلب منه الألمان جمهوريات البلطيق( أستونيا ولاتفيا وليتوانيا ) فأضاف تروتسكي إليها أوكرانيا، وقال: هذه كلّها لكم، لقد بقي طلب أخير للألمان وهو الذهب الروسي، وكان احتياطي الذهب الروسي في قازان، لقد أمر لينين تروتسكي بتسيير الجيش للحفاظ عليه فتلكأ تروتسكي، ممّا سهّل على الجيش التشيكي الاستيلاء عليه، وبذلك يكون قد أسهم في عملية سرقة الذهب الروسي لصالح الألمان، ولم يبق سوى الأسطول الروسي الذي كان بقوة الأسطول الإنكليزي، وكان راسياً في بحر البلطيق آنذاك، لقد أعطى الإنكليز التعليمات لتروتسكي بأن يصدر الأوامر بإحراق الأسطول الروسي، فردّ عليهم: بأيّ حجّة سأحرق الأسطول؟ فأعطاه الإنكليز المبرّر لحرق الاسطول وهو الخوف من استيلاء الألمان عليه، عندئذ أعطى تروتسكي الأمر إلى الجنرال الروسي الذي كان مسؤولاً عن الأسطول بإحراقه على الفور، لكنّ الضابط الروسي رفض تنفيذ الأوامر ولم يحرق الأسطول بحجّة أنّه بعيد عن متناول الألمان وفي مأمن من خطرهم، فأرسل تروتسكي وراء هذا الضابط وتمّ إعدامه في قبو وزارة الداخلية في موسكو وأُحرقت جثته بعد إعدامه، ثمّ أمر تروتسكي الضابط البديل بإحراق الأسطول، فتمّ له ذلك، وبذلك يكون تروتسكي قد نالَ من روسيا وفعل بها ما لم يستطع عليه ألدّ أعدائها
لقد قتل ستالين زوجة تروتسكي الأولى وابنه وحفيده وبعض أخوته، ومن ثم قتله هو الآخر.