الارتزاق السياسي في المجتمع السوري
دوران ملكي
عندما قاد الحقوقي الكوردي السوري إبراهيم هنانو الثورة ضد الفرنسيين في جبال الزاوية في الشمال السوري احتاج إلى السلاح للمواجهة، ولم يعتمد على أية دولة خارجية مما دفع به إلى بيع أملاكه الزراعية ليزوّد أنصاره بالسلاح والذخيرة، فقد وضع المال في خدمة أهدافه ومبادئه، وحذا حذوه الكثير من المناضلين الذين ضحوا بمالهم وأرواحهم في سبيل قضيتهم الوطنية، وبذلك زرعوا ثقافة التضحية في نفوس المواطنين على جميع المستويات الاجتماعية، وتوجت أعمالهم بالانتصارات، ولم يهنأ المستعمر في سوريا طيلة فترة بقائه.
بعد الاستقلال وتحديداً في فترة خمسينيات القرن الماضي بدأت الأحزاب الراديكالية بالظهور والتي تحمل الأفكار اليسارية مستلهمة أفكارها من الثورة البولشفية في روسيا، وامتزجت مع الأفكار القومية التي رافقت مرحلة التحرر الوطني. تميّزت هذه الأحزاب بالفكر الراديكالي القومي وانتهجت الديكتاتورية مساراً لها مما زاد من فترة بقائها في السلطة مستفيدة من الصراع العالمي بين الشرق والغرب، وما إن انهارت المنظومة الاشتراكية حتى بقت هذه الأحزاب وحكامها دون سند مما دفع بهم إلى ربط الشعب بالسلطة عن طريق لقمة العيش إذ من لم يكن في فلك السلطة يضيق به الحال والأحوال، ويصبح من فاعل في المجتمع إلى مفعول به. كل شيء في الحياة يمرُّ عبر غرابيل الأجهزة الأمنية الكثيرة وارتبطت الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية بالمعايير الأمنية المحددة مما زاد من عدد المتملقين وشعراء البلاط، واعتلت الأصوات والهتافات والصور ومجد القائد وأصبح الارتباط عضوياً وطويل الأمد حتى إن جيلاً بأكمله لم يعرف، ولم يتعرف على نمط آخر من الحياة السياسية غير هذا النمط. أصبحت جميع القيم التي كنا نتغنى بها ذهبت أدراج الرياح إذ أصبح الكذب سياسة والسرقة منفعة مشروعة وحق مكتسب، والسمسرة غزت أركان الدولة وتم التغاضي عنها والرشوة التي حاربتها جميع الأديان والنظريات الاجتماعية أصبحت عادة شائعة ودون أدنى خجل.
ولد الإنسان المعاصر، الدجال، المنافق الذي يتلاعب بالألفاظ، ويستطيع الخروج من خرم الإبرة وولد معه ظاهرة الارتزاق السياسي، وطال هذا الارتزاق الأحزاب السياسية المنضوية تحت لواء الحزب الحاكم مما أدى إلى تشرذمها وتحولها إلى مجموعات وكتل صغيرة تدور في فلك النظام الأمني الاستبدادي، وبذلك تخلى المجتمع عن العمل السياسي الحقيقي لصالح فئة معينة يتم إذكاؤها من الدوائر الأمنية عبر قوائم محددة تحت اسم قائمة الجبهة الوطنية التقدمية، أما من بقي في المعارضة فلم يستطع أن يؤسس كياناً سياسياً بحد ذاته، وتم قمعهم ومن بقي حياً في سجون النظام هو الذي تخلى عن أفكاره، وتملّق وهو داخل السجن ليخرج البطل المغوار بمرسوم جمهوري، ويصبح مدافعاً عن النظام مثل الكاثوليكي الذي يزاود على البابا ولكن بألوان مختلفة وبدع جديدة.
معظم المعارضة السورية الحالية هي وليدة هذه الحقبة، ومن رحم هذا النظام وتعرّض الى فلترة من قبل الأجهزة الأمنية وغسلت أدمغتهم وشربوا من مناهل النظام.
في بداية الثورة السورية استطاع بعض الأكاديميين في الخارج وبعض الضباط الأحرار من تأسيس نواة المعارضة السورية، وقادت الحراك الجماهيري، والتفّت الجماهير حولها، وكانت صادقة ومعبرة عن طموحات الشعب السوري بكافة مكوناته، وحظيت بالدعم العربي والدولي وحاصرت النظام في الزاوية الضيقة إلا إن التدخلات الخارجية حالت دون بقاء هذا الجسد الجامع، فأنشئت المنصات المتعددة إضافة إلى ذلك استطاع النظام وبشتى الوسائل أن يحول الحراك السلمي الجماهيري إلى مظاهر مسلحة عن طريق أعوانه داخل المعارضة كما ظهرت الحركات الإسلامية المتطرفة في كلٍ من سوريا والعراق، وبدعم من دول الجوار والإقليمية ومن النظام نفسه مما غير من أنظار الدول الداعمة للثورة السورية إلى مواجهة الحركات المتطرفة، والحرب على الإرهاب وخاصة في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ففور فوزه في الانتخابات الرئاسية دار ظهره للمعارضة السوريه، سلم الملف السوري إلى روسيا فأصبحت المعارضة السورية بين فكي كماشة. الروس والإيرانيين والنظام والفصائل الشيعية الداعمة له من جهة ومساومات تركيا على المعارضة والضغط عليها لإجبارها على التلون باللون الذي يريده أردوغان على أنه الدولة الوحيدة التي تدعم المعارضة سياسياً وعسكرياً من جهة أخرى وهذا ما أفقد المعارضة قرارها المستقل وسمح كما في عهد النظام بالارتزاق السياسي على الصعد كافة لا بل تجاوزت حدود المنطق في نقله للمعارضة السورية إلى دول أخرى خدمة لتمدده العثماني.
تمدد الارتزاق السياسي كثيراً في المجتمع السوري لتبدو ظاهرة شعبية إذ حتى المواطن العادي فقد القيم الوطنية والدينية والقومية مقابل من يدفع أكثر ولم يعد باستطاعة أحد التحكم في مجرى الأمور سوى المال، فيومٌ تراه مع التطرف، ويوم مع الشيعة ويوم ماركسي ويوم يسوعي مع الموجة والمال.
المجتمع السوري يعاني الويلات من هذه الظاهرة، فمن هرب من بطش النظام أصبح سفاحاً في مناطق المعارضة، ما تعانيه عفرين الجريحة من هذه الفصائل من ويلات وأهوال يعجز اللسان عن وصفه، وتم توثيق الانتهاكات من قبل منظمة هيومن -رايتس-وتش اذ بقيت المعارضة السياسية في واد والفصائل المرتزقة في وادٍ آخر مما يهدد الكيانات الحالية والشبه جامعة بالانهيار بالرغم من وجود نشاط هزيل في المنظمة الدولية لكتابة الدستور السوري وحل المأساة السورية وفق قانون مجلس الأمن الدولي رقم 242 والتي يؤمل أن يتم تنشيطها في فترة الرئيس جو بايدن بالضغط على روسيا والنظام السوري لقبول الحل السلمي، وإلا ستنهار بقايا المعارضة السورية وتتحول الى كتل وكيانات تدور في فلك دول الجوار والدول ذات الشأن لتؤدي إلى انهيار الدولة السورية بأكملها.