قراءة في نصّ (12 آذار) لأحمد إسماعيل إسماعيل

قراءة في نصّ (12 آذار) لأحمد إسماعيل إسماعيل


صبري رسول

ملخّص القصّة:
القصّة تتناول يوم (12 آذار) وقلق امرأةٍ أرملةٍ في هذا الحدث الآذاري، تتنظر ابنها ذا الأربعة عشر ربيعاً، وهو يعمل في سوق الخضرة صباحاً، ويلعب مع أقرانه بعد الظّهر، لكنّه، تأخّر كثيراً، خاصّة أنّ المدينة تمرّ في وضعٍ كارثي، حيث أحداث 12 آذار مازالت ساخنة، وتراب مقابر الشهداء مازال ندياً. والشّبيحة تجوب كلّ النّواحي. الاعتقالات والقتل والعنف عناوين تسطّر مناخ المدينة. تستغرق القصّة مدّة زمنية بين بداية الغروب وحتى الفجر.
مناخات النّصّ:
النّصّ يرصد جوّ الرّعب المخيّم على المدينة ليلة الثاني عشر من آذار، حيث الانتفاضة الكردية اجتاحت كبركان غير موعود كامل الجغرافية الكردية في سوريا، والهلع في عيون النّاس، يدلّ على العنف المفرض الذي استخدمته أجهزة النظام ضد الكرد، ويكشف النّصّ عن بؤس الحياة الاجتماعية والسّياسية والاقتصادية في الحيّ، الذي تعيش فيه المرأة وأولادها، الغارق في الفقر، بل في هذه المدينة التي استحالت جثّة تحت أقدام العسكر، يصوّر المستوى المتدني لمعيشة هؤلاء «تلاصقت بيوته الطينية والإسمنتية الواطئة، [...]، كان ثمّة باب حديديّ صغير تآكلتْ حوافُه، ونخر الصدأُ إطاره» ما أن يتخيّل المرء "البيوت الطّينية الواطئة، المتلاصقة" حتى يدرك حجم الفقر المتفشي في الحيّ، ولنا أن نعرف بؤس الأهالي في هذه البيوت، وبؤس الحيّ كلّه من معرفة شكل الملعب: «ملعب الحيّ الترابي».
بحرفية كاتبٍ متقنٍ يلتقط الكاتب المسرحي أحمد إسماعيل إسماعيل، ابن مدينة قامشلي، والمقيم في ألمانيا، إضافة إلى محور النّصّ «انتظار أمٍّ لابنها اليافع، والوساوس التي تنهش روحها ليلة كاملة» مواضيعَ أخرى هامشيّة من خلال هذه القصّة وفكرتها البسيطة،. الصّورُ الهامشيةُ كـ: «الملعب التّرابي. الوجوه المطلّة من النّوافذ. عتمة الشّارع. حتَّى تنكفئَ إلى الداخل بخوف. ينتصب تمثال قائد البلاد الرّاحل. فتيةٌ يتخبطون في الشّارع بدمائهم كطيورٍ ذبيحة» تتكاملُ لتمنحنا صورةً عامّةً عن الوضع السّياسي والمعيشي لآلاف النّاس في مدينة مركونة في أعلى منقار البطة في الخارطة السّورية.
هكذا من خلال رصد الحدث، ونفسيّة المرأة الأربعينية، وتصوير المكان المحيط بها يبدع الكاتب في إيصال أكثر من رسالة. النّصّ السّردي يأخذ بتلابيب القارئ، يشدُّه بقوةٍ إلى متابعة الحدث. يتلهّف القارئ لمعرفة مصير الابن الغائب، يتعاطف مع الأمّ، يشفق على النّاس الذين حلَّت بهم الكارثة قبل أيام.
صوّر الكاتبُ القلق الذي التهَمَ المرأةَ، فكلّ امرأة لديها أبناء تعيش القلق ذاته لحظة غياب ابنها. عانت النّساء من الخوف المُمِيت لأيامٍ طوال.
نهارٌ مخضَّب بالدّم، جثثٌ متناثرة في أكثر من شارع، لفتيانٍ وشباب انبروا لمواجهة ظلمٍ ثقيل، قادوا مسيرة تجتاح شوارع المدينة، مكسرين خوف عشرات السّنين، «لم تستطع الظّلمة إخفاء الحطام المتناثر في الشّوارع كأشلاء [...] وافتراس النّشيج المكتوم خلف الأبواب الموصدة بإحكام».
ما يميّز هذا النّصّ، كسائر نصوص أحمد إسماعيل، سردُهُ الشّاعريّ المُفعم بالحركة، فالوصفُ القليل لا يشكّل عبئاً على حركة السّرد، بل يضفي متعة بلاغية له، ويخلق تشويقاً يثير فضول القارئ، لا يشعر القارئ بالملل، بل يجد نفسه، وهو يشارك قلق المرأة الحارق ويتابعه، في نهاية القصّة.
يهيمنُ على صياغةِ القصّة أسلوبٌ شاعريّ، ويسخِّر الكاتب الوصفَ فيه لأداء عدة مهمّات، كنقل الحدث والحالة النّفسية للمرأة، والفقر المدقع والخوف المهيمن على سكان الحيّ «تلاصقت بيوته الطينية والإسمنتية الواطئة. القلق الذي كان يفترس روحها. وافتراس النّشيج المكتوم خلف الأبواب الموصدة. كان ثمة باب حديدي صغير تآكلتْ حوافه، ونخر الصّدأُ إطاره»
فنيّات القصّة:
تتميّز القصّة القصيرة جداً بأنّها الفنّ الذي يتّكئ على سمتي القصر والإيجاز، فالجمل قصيرة وإيحائية، يعتمد الكاتب فيها على خلق الدَّهشة في الموقف من جهة، وعلى الترميز والاستعارة في خلق الصّورة من جهة أخرى. التطويل والاستطراد والشروحات الإضافية تجعل من النّص مترهّلاً، وتخلق الملل لدى القارئ في حين إيجاز النّصّ وشعرية اللّغة يخلقان متعة مضافة إلى متعة التّشويق في متابعة الحدث. فعند قراءة العبارة الآتية في هذه القصّة، ستقود اللّهفةُ القارئَ إلى إكمال القراءة: «وكغريق لا يجيد السّباحة، أطلقت صرخة انتشلتها من أعماقها، وقذفت بها وبنفسها خارج الدّار». فالبحث عن سبب الصّرخة وتأثيرها على المرأة والمحيط يحرّك الحدث، يثير الفضول الطبيعي لدى الإنسان لمعرفة الموقف، والفضولُ دافعٌ قويّ يجعل المرء باحثاً عن خفايا المعرفة.
من مقوِّمات نجاح السّرد في النّصّ القصصي، تصويرُ الحدث والحركة لشخصيات القصّة من خلال تقديم صور ساكنة وأخرى متحركة، ويأتي التّصوير من خلال اللغة التّصويرية التي لا يمكن لكاتب القصة الاستغناء عنها، نلاحظ في الصّورتين الآتيتين مشهدين: أحدهما يلخّص حالة المدينة، والآخر يبيّن قلق المرأة: «فشاهدت الأمواج البشرية وهي تتدافع في شوارع المدينة، حاملة جثامين فتية صغار وهي تطلق الصّيحات الغاضبة، وتلوّح بالرّايات، واللافتات» هذه الصّورة أوجزت هيجان المجتمع بكلّ فئاته، بينما في المنزل تنتظر المرأة ابنها وهي تعاني قلقاً أنهكَ طاقاتِها، «تسند ظهرها إلى الباب المغلق وترفع إلى السّماء وجهاً ضارعاً كساه الخوفُ بلون كامد»
الاستهلال والخاتمة:
استهلال القصّة جاء مقبولاً، وكان يمكن أن يكون أكثر قوّة لو وضع الكاتب الجملة الفعلية في البداية، وألْحَقَ به الفضلة «هبط الليل على جَسد المدينة كعُقاب، بعد نهارٍ.... »
بينما نهاية القصّة جاءت جملة طويلة وإيحائية، انفرجت أسارير القارئ مع سرور المرأة ودهشتها. «... وهي تتأمل بدهشة ممزوجة بسرور راح يتعاظم،...» مع الخاتمة يتنفّس القارئ، يُغمِضُ عينيه، ويأخذ نفَسَاً عميقاً.