الكرد بين الجغرافيا والمصالح.. فرصة التاريخ الأخيرة

الكرد بين الجغرافيا والمصالح.. فرصة التاريخ الأخيرة

أكرم خلف

في قلب العاصفة التي تضرب الشرق الأوسط، تقف القضية الكردية عند منعطف حاسم، فالعالم من حولهم يتغير بسرعة، تحالفات تتبدل وقوى كبرى تعيد رسم حدود النفوذ، وأنظمة تبحث عن استقرار ولو مؤقت في بحر من الصراعات، ووسط هذا المشهد يبرز سؤال مصيري: هل يمكن للكورد أن يتحولوا من ورقة في يد الآخرين إلى لاعب رئيسي يرسم مسار المنطقة

ربما لم يعرف الشرق الأوسط زمناً أكثر قابلية لإعادة التشكيل من اليوم. فهناك تراجع في الهيمنة الأمريكية وصعود لقوى جديدة مثل روسيا والصين بينما تتنافس تركيا وإيران والسعودية على مجالات النفوذ أما بغداد ودمشق فهما تعيشان حالة توازن هش بين الحاجة إلى الاستقرار والرغبة في السيطرة

في هذه البيئة المليئة بالتحولات تبدو الورقة الكردية ذات وزن خاص ليس فقط لأنها تطالب بحقوقها بل لأنها تقع في موقع جغرافي يجعلها جزءاً من كل معادلة.

الكورد لا يملكون دولة معترف بها، لكنهم يملكون ما هو أهم من ذلك مجموعة من الأوراق القادرة على تغيير موازين القوى إذا أُحسن استخدامها، فالموقع الجغرافي هو شريان استراتيجي يربط الخليج بالمتوسط والثروات الطبيعية في كركوك والحسكة تمنحهم قدرة اقتصادية هائلة كما أن الاستقرار النسبي في مناطقهم يشكل عنصراً جاذباً في منطقة مضطربة

يضاف إلى ذلك أن التجربة السياسية الكردية في العراق وسوريا أظهرت نموذجاً مؤسساتياً متقدماً نسبياً مقارنة بالبيئة الإقليمية، برلمان أحزاب تعددية وإعلام نشط، وهي عناصر تهم الغرب الذي يبحث عن نموذج ديمقراطي واقعي في الشرق الأوسط.

لكن السياسة لا تبنى على العدل وحده، بل على المصلحة المشتركة ومن هنا يأتي جوهر المشروع الكردي الجديد الذي يجب أن يقوم على منطق الصفقات الذكية لا الشعارات الرومانسية، فبغداد تبحث عن وحدة العراق واستقرار مالي، والكورد يمكنهم تقديم نفط مُدار بشفافية يرفد الميزانية مقابل اعتراف دستوري واضح بحقوقهم، وتركيا تبحث عن الأمن والتجارة، ويمكن تحويلها إلى شريك من خلال تفاهم يقوم على الأمن مقابل الاقتصاد، أما دمشق فتحتاج إلى الحفاظ على السيادة الرمزية، ويمكن التفاهم معها على صيغة حكم ذاتي إداري واقعي.

الولايات المتحدة وأوروبا تبحثان عن الاستقرار ومكافحة التطرف، والكورد يمثلون نموذجاً قابلاً لذلك، أما روسيا والصين فتهتمان بالمصالح الاقتصادية والتوازن الإقليمي، ويمكن إشراكهما في مشاريع استثمارية كبرى تجعل استقرار المناطق الكردية مصلحة مشتركة للجميع.

العبقرية السياسية تكمن في تحويل الخوف إلى مصلحة، فتركيا التي تخشى من قيام كيان مسلح يمكن طمأنتها عبر اتفاق أمني وتجاري يفتح أسواقها، ويمنحها امتيازات اقتصادية، وبغداد التي تخشى الانفصال يمكن طمأنتها من خلال شراكة حقيقية في إدارة الموارد، وأوروبا التي تخاف من موجات الهجرة يمكنها أن ترى في الإقليم الكردي منطقة استقرار اجتماعي واقتصادي، وحتى إيران يمكن التعامل معها عبر علاقات تجارية وحدودية واضحة دون دعم لأي نشاط مسلح داخلها.

بهذا المنطق يتحول المشروع الكردي من مشروع صراع إلى مشروع مصلحة إقليمية مشتركة. الخطأ الأكبر في التجارب السابقة كان القفز فوق المراحل، فالنجاح لا يأتي بإعلان سياسي مفاجئ بل بخطوات متدرّجة تبدأ بتوحيد الصف الكردي داخلياً، ثم اتفاق اقتصادي واضح مع بغداد يضمن توزيع الإيرادات، بعده تفاهم أمني مع تركيا يخفف التوتر، ويفتح أبواب التجارة، ثم إصلاح داخلي يرسّخ الديمقراطية، ويحد من الفساد، وأخيراً علاقات متوازنة مع القوى الكبرى تمنع التبعية لأي محور.

هذه الخطوات هي أساس مشروع مستقر، وقابل للاستمرار في المدى البعيد. التاريخ لا ينتظر طويلاً، فسنوات قليلة قد تحدّد مصير المنطقة كلها، ومن لا يجلس على الطاولة اليوم سيجد نفسه غداً موضوعاً على الهامش، فالعالم يعيد ترتيب مصالحه، ومن لا يملك خطة سيصبح جزءاً من خطط الآخرين.

اليوم يمتلك الكورد ما لم يمتلكوه من قبل وعياً سياسياً ناضجاً وتجربة مؤسساتية وقدرة على التفكير الواقعي بدلاً من الشعارات، وإذا استطاعوا أن يحوّلوا أنفسهم إلى حاجة اقتصادية وأمنية لجيرانهم فسوف يفرضون وجودهم من دون صدام.

النجاح لا يعني إعلان دولة مستقلة، بل بناء كيان مستقر ومعترف به عملياً حتى لو لم يُسمَّ دولة، وهذا يتحقّق عندما يصبح الإقليم ضرورة للجميع لا عبئاً على أحد.
حينها فقط سيأتي الاعتراف لا كهبة، بل كنتيجة منطقية لواقع لا يمكن تجاوزه.