النُّخب ودورها في المجتمع
العميد المهندس محمد رجب رشيد
النُخب من المفاهيم الحديثة التداول، لم تظهر إلّا مع بدايات القرن الماضي في كتابات عالم الاقتصاد والاجتماع الإيطالي فِلفريدو باريتو الذي يُعدُّ من أوائل الذين أولوا مفهوم النخب جزءاً كبيراً من اهتماماتهم، ثمّ انتشرت في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وساد استخدامها في النظريات الاجتماعية التي أولت اهتماماً خاصاً بمظاهر التفاضل الاجتماعي. ونجد مفاهيم أخرى مشابهة لها في المعنى كانت قد سبقتها في الظهور مثل الكهنة، الأئمة، الدُعاة، الصفوة، الأخيار.
النخب بشكل عامة تعني كل ما هو مُنتقاة بعناية فائقة ومتميّز بجودته ونوعيته أي الأفضل. ويشير مفهوم النخب إلى الأشخاص الأكثر قدرةً والأشدُّ تأثيراً على الآخرين من غيرهم، ويملكون نفوذاً داخل المجموعة التي يعملون فيها. إلّا أنّه في العلوم الاجتماعية يتسع المفهوم ليدلّ على الجماعات المتميّزة بخصائصها ومواقعها الإدارية والتنظيمية، وخاصة ذوي النفوذ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي .
نستنتج مِمّا سبق أنّ توفُّر الثقافة والخبرة والمعرفة لدى الشخص غير كافٍ ليكون من النخب، بل لا بدّ بالإضافة إلى ما سبق أن يتّصِف بالصدق، ويتفاعل مع الظواهر الاجتماعية، ويُتابع الأحداث، ويرصدها، ويغوص فيها بهدف حماية المجتمع من الأفكار المسمومة، وحضّ أفراده على التمسُّك بقيمه والدفاع عنها، والأهم من ذلك هو الانحياز التام إلى الحق أينما وُجِد، والتأثير على سياسات السلطة وبرامجها لتجنب الصراع مع الشعب. ولا نبالغ إذا شبّهنا النخب من المجتمع بالوجدان من الإنسان وبالبوصلة للمسافر في الصحراء.
ثَمّة أنواع عديدة من النخب بقدر فروع الأنشطة المختلفة في المجتمع والدولة (النخب الاجتماعية، النخب الدينية، النخب السياسية، النخب الاقتصادية، النخب العلمية، النخب الأدبية، النخب الفنية، ... إلخ). وكل من يملك نفوذاً وتأثيراً في إحدى المجموعات السابقة يُعَدُّ من النخب. وبناءً على ذلك يُعدُّ الفنانون والشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة من النخب أيضاً كونهم يشكِّلون الاستثناء في المجتمع. ولا يمكن الحديث عن النخب إلّا في إطار النشاط الذي تمارسه من خلال منظمات ومؤسسات المجتمع المدني الذي يُشكّل المجال الحيوي للنخب.
تحتلُّ دراسة النخب أهمية كبيرة في موضوعات علم الاجتماع السياسي، وذلك لأهمية ما تملكه النخب من أدوات مؤثِّرة في تكوين واستقرار المجتمعات وتشكيل نسق الفِكر والتوجه العقائدي، وصياغة آليات الحُكم وتغيير القيم والسلوكيات. ولم تعُدْ دراسة النخب مقتصرةً على علم الاجتماع السياسي فقط، بل تعدّت إلى العديد من العلوم، حتّى أصبحت إحدى أهم محاور الدراسات السياسية والاقتصادية.
تأتي دراسة النخب السياسية في المقدمة باعتبارها نُخبة النخب، وإحدى أهم المفاهيم التى حازت على اهتمام العديد من الباحثين والأكاديميين نظراً لأهميتها الكبيرة في تسليط الضوء على مكوِّن أساسي من مكوِّنات صُنع الواقع السياسي والثقافي والديني في المجتمع، ومُساهِم فعلي في عملية التحوّل الديمقراطي وكافة مظاهر التغيير والإصلاح السياسى. وتُعرف النخب السياسية بالأشخاص الذين يتمتّعون بإمكانيات فكرية وإبداعية وحضور قوي داخل المجتمع أكثر من غيرهم، مِمّا يمكِّنهم من تسيير الشؤون السياسية وتشكيل اتجاهات الرأي العام وتوجُّهات المجتمع نحو المستقبل. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ النخب السياسية ليست جميعها بنفس السَوية، بل إنّ البعض منها يُشكِّل خطراً على المجتمع والدولة، خاصة عندما يتضخّم لديه الأنا إلى آخر مدى، وتصل المكابرة به إلى أعلى مستوى، أو حين ينحاز إلى الظالم من أجل بعض الفُتات، وبذلك يتجرّد من القيم والمبادئ، ويسقط عنه شرف الانتماء إلى النخب. والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث. هناك بالفعل نخب فاسدة تبحث عن الشُهرة وبِناء الأمجاد الكاذبة لإرضاء غرورها، وتتجاهل في الوقت نفسه نتائج التهوّر وسَوْق المجتمع والدولة نحو الهاوية، تلك النخب قد تحظى بالشُهرة ولكنها بالتأكيد لن تبلغ المجد، فالمجد يركع لمن يستحقها فقط، بينما الشُهرة مجد كاذب كفقاعة في الهواء لا تدوم.
بماذا نصِف نخباً لا تقبل الآخر المختلف؟ وماذا نقول عن نخب اتخذت صدام حسين مثلها الأعلى؟ وأخرى تزوِّر التاريخ وتُنكِر حقائق الحاضر، وأخرى تطالب برفع الظلم عن فئة، وتبرِّر ظلم فئة أخرى. ليس هذا فحسب بل الانقسام على جميع قضايا العالم، ويبرز ذلك بوضوح في قضية فلسطين واتفاقية سيناء، والموقف من ثورات الربيع العربي في بداياتها، وصفقة القرن، و......إلخ. هذا فضلاً عن المتسلقين الذين يعدّون أنفسهم من النخب وهم بعيدون كل البعد عن أحداث الساعة ولا يُعيرون القضايا العادلة والشأن العام أي اهتمام.
وأخيراً ماذا عن النخب الكوردية؟ هل هي موجودة حقاً؟ وأين دورها؟
إنّ التمعُّن في الواقع الثقافي والتعليمي والعملي للشعب الكوردي يقودنا إلى الاستنتاج التالي: ما أكثر الكفاءات والخبرات والمواهب! وما أقل النخب! ويعود ذلك إلى غياب شبه تام لمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني والتي من خلالها يمكن للنخب أن تساهم في نهضة المجتمع، وضِعف نشاط القِلّة القليلة الموجودة منها. أمّا الأحزاب السياسية الكوردية فهي جزء من المجتمع المدني، ولا يمكن أن تكون بديلاً عنه مهما بلغ عددها، وبالتالي تقع على عاتقها مسؤولية مضاعفة. وكل ما أخشاه أن يتضاعف عددها وتتقلّص مسؤوليتها.