تصدُّع الروح

  تصدُّع الروح

شمس عنتر

هدوء صاخب كالذي يعقب ذهن الإنسان المنفلت من أثقل الكوابيس، الداخل إلى حالة تخبط العقل، حيث تتنازع فيه الأفكار التي تسبقها خطوات عشوائية، أما في الخارج فالمنطقة منكوبة حرفيا.
بنايات منهارة، أرض منشطرة، سيارات الإسعاف تروح وتجيء، الطرقات مغلقة، مجاميع الناس مفزوعة وهي في العراء، عويل النساء الحافيات وهن بملابس النوم الخفيفة، وأطفال يلتصقون بأمهاتهم يرتجفون من الخوف والبرد، سلطات مرتبكة، فرق الإنقاذ مستنفرة، القلوب فرطت من الخوف، آليات تزيح الأسقف المنهارة، الخراب فوق احتمال طاقة العقل البشري الذي تخيل إنه محصن وآمن في بيته. والإعلام يبث بشكل مباشر لقاء مع أسرة ناجية من الزلزال، أم وأب، وشاب تخطّى العقدين من عمره. كل محاولات المذيع فشلت في أن يجعل الشاب يتحدث إليه رغم إنه لم يكن مصاباً من الخارج. كانت هناك انعكاسات غريبة على ملامحه، كان يرتعش بشكل فجائي، ثم يكمّ فمه بيده، وينظر إلى والده شذرا، وكأن لعنة اصابته.
هذا الزلزال قد أعاد تشكيل روح أحمد، الذي لم يلتفت لوالدته المصابة، ولم يرق قلبه لعبرات وتأوه ونشيج هذه الأم المكلومة.
شمّ المذيع من خلال أنفاس أحمد رائحة الغضب بدل الخوف، تلك الانفاس المتلاحقة الصادرة من معدته الخاوية.
أحمد يزرع أصابعه النحيلة بين شعره المُجعّد الكستنائي، ويرفعه عن عينيه المحجوزتين خلف بلور سميك مشبع بقطرات ندية، الأصابع المرتجفة تشي بغليان غريب.
استدار المذيع إلى والد أحمد الذي كان يخفي اضطرابه وارتعاش شعرات لحيته السوداء، ويشغل نفسه بسحب حبات المسبحة الناجية معه: الحمد الله على سلامتكم والله يرحم ابنتكم، انفرجت شفتا الأب متجهزاً للرد، لكنه تراجع حين سمع صوت أحمد: قل، قل لهم أنك السبب في قتلها!، جمد الجميع وكأنهم تلقوا صفعة جماعية فتمتمت الأم: أنه القدر يا ولدي.
يتذكر أحمد في اللحظة التي همّوا بمغادرة البيت عند شعورهم بالزلزال كيف أن تلك الدقائق الثلاث بدت دهراً بدون نهاية، حين صرخ الأب بأعلى صوته طالباً من ابنته ألا تخرج مكشوفة الرأس! ولما استدارت الفتاة لتلتقط ما تغطي به رأسها سقطت وتدحرجت، واختفت عن الأنظار، فقد مال بهم البيت وكأن سجادة قد سُحبت من تحت أقدامهم بقوة هائلة وانجرفوا مصطدمين ببعضهم. بعد ساعات حين سحبوا الفتاة من تحت الأنقاض كانت قد فقدت معظم لباسها.