كرنفال اليمين الكاذبة
محمود عمر
لم يمض على تركها للحبو سوى عدة أيام أصبحت تخطو خطوتين صغيرتين، وتقع أرضاً في الثالثة، يضحك الجميع لضحكتها البريئة حين السقوط، هي تريد أن تخبرهم أنها تقوم بحدث عظيم، وأنها قد انتقلت من حالة (بطء السلحفاة) إلى حالة (سرعة الأرنب) بخطواتها تلك، وبتلك الخطوات البسيطة، استطاعت (رشا) التي لم تكمل عامها الثاني بعد الوصول إلى تلك الطاولة الصغيرة التي ما زالت تحمل ابريق الشاي والفناجين المليئة الباردة التي غادرها والداها منذ لحظات، لا نعلم هل هو الفضول الذي دفعها لتكرر محاولاتها في الصعود إلى ظهر الطاولة؟ ونجحت في النهاية واحتفلت بنجاحها بطريقتها الخاصة في العبث بالفناجين، وشرب بعض الشاي منها وإفراغ ما تبقى على الطاولة وأرض البلكون، وبعد أن فرغت من احتفالها، وقفت على الطاولة، وأمسكت بقوة وبيديها الصغيرتين بحديد (البلكون) نظرت نحو الأعلى تراقب بعينيها الجميلتين حركة الغيوم البيضاء المتناثرة كقطعان من الخراف في السماء في ذلك اليوم الخريفي المشمس تحوّلت بنظراتها نحو الأسفل لتراقب حركة المارة والمركبات في الشارع، كانت سعيدة في نظراتها الافقية بالحركات البهلوانية لعصافير الدوري وهي تنتقل من دار إلى دار، ومن شجرة إلى أخرى، تقع على أسلاك عواميد الكهرباء، ثم تطير لتستقر ولو للحظات على المداخن فوق سطوح المنازل، في تلك اللحظة لا نستطيع أن نتكهن بما كان يدور في خلد هذه الطفلة الشقية، هل تريد أن تلعب وتداعب عصافير الدوري في الطيران؟؟ هل تظن أنها قادرة على فعل ذلك؟ ربما تظن أن الأطفال كالعصافير، وإن القفز بعد الحبو يعقبه الطيران، كل ما نعلمه هي أنها أرادت أن تطير كالعصافير وبلحظة ومن أول محاولة تهاوى جسد الصغيرة نحو الأرض جثة هامدة، وصعدت روحها البريئة إلى بارئها في السماوات العلى لتغدو طيراً من طيور الجنة، كل ذلك يجري وما زال والديها في الغرفة في نقاش وصراخ عقيم.
كان (الأب) يمرُّ بأيام عصيبة وفي ضائقة مادية بعد مغامرات وصفقات مشبوهة وفاشلة، وكان مقبلاً على إفلاس حقيقي، استمات في اقناع زوجته على أن تشهد له في المحكمة ضد أهلها، وإلا فإن إعلان إفلاسه (قاب قوسين أو أدنى)، ولن يستطيع أحد إنقاذه سوى شهادتها تلك، حاول المقربون منها ثنيها عن ذلك وبأن عقاب الشهادة الكاذبة عند الله عسير، ولكن عاطفة الأمومة والحرص على بيتها وعائلتها تغلبت على العقل والمنطق ودفعتها تلك العاطفة إلى تكون حاضرة في تلك الجلسة للشهادة، شهدت وخطت بخطوات ثقيلة ـ وهي تجهش بالبكاء ـ نحو البيت في ذات الوقت كان (الاب) يراقب الوضع عن كثب وحين تناهى إلى مسامعه بأن الجلسة قد انتهت وكان له ما اراد، بدأ في ترتيب الطاولة في (البلكون)، وأعداد ابريق من الشاي، وإحضار خاتم من الذهب ووضعه على الطاولة لتفاجئها به، استقبلها على الباب وأمسك بيديها وتوجه بها من فوره نحو احتفالية الشاي التي أعدها لها، قدم لها الخاتم ودعاها إلى الجلوس لشرب الشاي معا وحاول أن يهدأ من روعها وانه لم يكن بد من ذلك، وان شهادتها هو حبل النجاة الوحيد، وحاول أن يقنعها بأن الضرورات تبيح المحظورات وانه سيدفع كفارة حلفها اليمين بالغا ما بلغت حين تتغير الظروف وتفك ضائقته المالية، وانه لن ينسى لها هذا الجميل طالما بقي حياً، ولكنها ظلت طيلة حديثه باكية لم تكترث لكل ما كان يقول رمت بالخاتم جانباً والدمع من عينيها يفيض بغزارة هي تدرك هول حلف اليمين الكاذب لم تستطع البقاء، هربت نحو غرفة نومها لحق بها يحاول أن يراضيها يلتمس منها أن تهون الأمر، ولكن كل محاولاته باءت بالفشل هي تدرك بأن ذلك الحلفان يعقبه أمر جلل حاول مرارا وتكرارا أن يثنيها عن العويل والبكاء وحلف بأغلظ الأيمان بأنه سيصلح كل شيء، يستمر هو في حديثه العقيم ومحاولاته البائسة وهي تستمر في البكاء وما زالا غائبين عن كل ما يحدث في الخارج، تعالت صرخات الجيران تنادي بأن (رشا) قد قفزت من البلكون الرابع وأنها فارقت الحياة لم يصدقا ما كان يكرره الجيران على مسامعها تسمرَّا في المكان كقطعتي خشب مسندة ومن نافذة غرفة المنامة المطلة على الشارع وقع نظرهما على احد الجيران يحمل على يديه ذلك الملاك الصغير، ويقترب من الباب خطوة خطوة توقعا كل شيء ولكنهما لم يتوقعا أبدا بأن (رشا) سترسم المشهد الأخير في مسرحية احتفالية اليمين الكاذبة.