إن دعاك الشوق لا تخجل تعال - قصة

 إن دعاك الشوق لا تخجل تعال -  قصة

شمس عنتر

ألمٌ غريب أن تموت من الحنين لشيء لم تعشـه أبداً....أليساندرو باريكو

المنصة مرتفعة وهي بموازاة آخر مدرج، كان يبدو كالنسر فوقها، كل العيون ترنو، والأذان تصغي، المدرجات ممتلئة لا يوجد أي تناسب بين هدير صوته وصغر حجمه، فجأة توقف البروفيسور وسط ذهول طلابه حين لمح بين الطالبات فتاة ترتدي قميصا من قماش يشبه شالاً ذا أرضية خضراء وتزينها زهور صغيرة، صفراء، وحمراء، فاشتعلت على حين غرة الذاكرة وكأنها كانت قنبلة موقوتة، أو إعصار قمعي لفه فلم يستطع صده، رمى المايكرفون، وترك المنصة متوجهاً إلى البوفيه، حمل معه الكأس الكرتوني الذي يتصاعد منه البخار، جلس على حافة الرصيف خارج مبني جامعة هامبورغ التي بدت كاللوحة الفنية بسطوحها البرتقالية اللون، وأنواع الأشجار التي تزيّن ساحتها الشاسعة والتي صممت بأناقة فائقة والمئات من الشباب والصبايا اللواتي بالكاد يستر صدورهن اشبار من القماش وسراويل قصيرة كاد لا تغطي مؤخراتهن رغم برودة الجو وشعورهن الذهبية اللامعة كأنها اشعة الشمس، لكنه وحيد جدا، لماذا أشعر وكأنني في غابة مظلمة؟؟!، لماذا كل هذا الجمال ولم يشف روحي المتعبة؟؟، لمَ أشعر أن حياتي مستعارة ومؤقتة برغم كل النجاحات التي حققتها.
إلى متى ستسكنني عامودا وأنا لم أعد اسكنها؟
آخر مرة لمس ذلك القماش الذي تتراقص الزهور عليه وكأنها فراشات تطير، كان منذ أكثر من أربعين سنة، في القسم الشرقي من مدينة عامودا قريب من دائرة الكهرباء الذي في باحته حاووز الماء، وهو على شكل قبة إسمنتية قائمة على عواميد ترتفع عن الأرض بحوالي عشرة أمتار، وفيه يخزن الماء ليتم توزيعه فيما بعد. الباحة مسورة بجدار ارتفاعه متران وباب حديدي جهة الشرق، كان حسنو يقفز فوق ذلك الجدار كل يوم تقريباً ليحوش الحشائش لتلك المعزة اليتيمة مثله المربوطة في حوشهم، ونشميه كانت تقاربه في العمر فقد كانا في الصف السادس في مدرسة «رابعة العدوية» والتي كانت تبعد خمس شوارع عن "متور الكهربا" هي ابنة موظف في تلك الدائرة، وكلما لمحته وشت به للحارس. عمي ذلك القزم ينط على الحيط. فيتلقى حسنو العقاب والسباب " يا ابن ال...." سأكسر رجلك.
لكن الحادثة التي صعقت دماغ البروفيسور هي التي حدثت في ذلك المساء حين كانت نشميه واختها الكبرى عائدتين من بيت جدهما القريب من الحدود التركية جهة الشمال، وكان الظلام قد تمدد بحرية على بيوت عامودا الترابية.
لمح حسنو نشميه واختها وهما تركضان هرباً من ثلاثة شبان يتحرّشون بهما، وكان حسنو يوصل بضاعة لأحدهم على عربته الخشبية ذات الثلاثة دواليب.
لكن المشهد أيقظ فيه عملاقاً نائماً، فترك العربة تتدحرج وركض نحوهم وهجم على أحدهم كالنمر المفترس وعض كتفه وصرخ بهن: انتن اهربن، لكن الآخر انتزعه من على صدر زميله وقذفه كالخرقة على الأرض وتم سحقه من قبل الثلاثة اعتنى به الطبيب عبدالحليم خضر حوالي أسبوع ثم نقله والد نشميه إلى مشفى نافذ بالقامشلي ومع صغر حجمه اكتسب عاهة، فلم يستقم ظهره قط.
لكنه اكتسب أيضاً حب نشميه التي كانت فيما مضى تحتقره والآن أصبحت تحوش الحشائش من باحة المولدة، وتأخذها إلى معزته اليتيمة وتفردها على الأرض فلا تكاد تميزها من بين تلك الحشائش بفستانها الشال الأخضر.
كانت المعزة تسمن كل يوم وحسنو يذوب حبا كل يوم.
لثلاث سنوات كانت الشمس بالنسبة لحسنو تركب دراجة وتمضي أسرع من المعتاد، والليل كان ثقيلاً طويلاً، النهار يعني حضور نشميه يعني الفرح، لكن كان للقدر حسابات أخرى.
والد نشميه صار يمنعها من الخروج المتكرر فقد أصبحت في سن الزواج وحسنو لا يصلح لها، والدته تنجد فرشات البيوت، وفوق ذلك قد أصبح معاقاً، ثم لن يتمكن من الزواج ربما لعشر سنوات قادمة، أما نشميه فعمرها مناسب للزواج!.
هكذا كان يقول والدها، فتقول هي في سرها، لكن كلانا بنفس العمر! وضاق الحال بحسن بعد انقطاع زيارات نشميه، ووالدته قررت الهروب بابنها، فكان لبنان مقصدهما، عملت أم حسن في إحدى المشافي كعاملة تنظيف، ليتمكن حسن من الدراسة، سجلته في منظمة تابعة للأمم المتحدة، وبالفعل بعد سنتين تمت الموافقة وأصبحوا في ألمانيا، حيث لاقى حسن الاهتمام، وأكمل دراسته وأصبح بروفسوراً، لكن ذكرى نشميه بفستانها الأخضر لم تغادر مخيلته
وفي زيارته لعامودا بعد سبع وأربعين سنة، كان أول مكان يجلس فيه تلك الباحة في ظل حاووز الماء، حيث يتخيل نشميه بكل تفاصيلها فقد استعاد رائحة المكان وصدى الأصوات حتى سباب الحارس، كان يلوح بيده يبعد الشال الأخضر أورق، وبدأ يرمّم به قلبه المتهالك منذ عقود أربعة.