مئوية لوزان... مأساة كوردية تاريخية
عزالدين ملا
يبادر إلى ذهن كل إنسان على وجه المعمورة، عندما يفكّر أن يحصي منجزات وإنجازات حققها هو أولاً ومجتمعه ثانياً ووطنه ثالثاً، ويبدأ بتدوينها في المخطوطات التاريخية لبلده حتى تتفاخر الأجيال القادمة بما قام به أجدادهم في الماضي القريب والبعيد. إلا الكوردي، الذي دوّن ويدوّن منجزات مآسيه القاسية بدمه المهدور على صفحات مظلومية التاريخ وتخاذل الحظوظ الإنسانية.
الكورد بيضة قبان في الصراعات الإقليمية والدولية قديمًا وحديثًا
منذ أن عرف الشعب الكوردي كورديته ظهر معه تشتته وتشرده، لم يهنأ له بال، بل كان على الدوام في صراع مستمرّ ومستميت مع مصيره المجهول.
حيكت حولهم حكايات وأساطير، على أنهم أقوام لا يشبهون البشر، وسميَّت مناطقهم بأرض الجن لأنهم كانوا يوارون عن الأنظار، واختبؤوا في كهوف وأودية الجبال حفاظًا على أنفسهم من الإبادات المتكررة بحقهم عبر التاريخ، وأرض الأشباح نتيجة تعرّض مدنهم وقراهم إلى التدمير الكامل لكثرة الهجمات عليهم ووقوع العديد من المعارك على أراضيهم، وفي كثير من الأحيان سويت مدنهم وقراهم مع سطح الأرض، والسبب وراء هذه التسميات لم تأتي صدفة، بل جاءت بسبب بعض الوقائع والأحداث التي مرّ به الشعب الكوردي تاريخيًا.
جغرافية كوردستان هي التي وضعت الكورد في الجبال وعرة ومعزولة، وموقع كوردستان التي توسّطت بين إمبراطوريات شرهة ومتعطشة، من الأرمن والرومان والفرس والسّاسانيين والعرب، ومن ثم في العصر الحديث تعرضت لأطماع البريطانيين والفرنسيين والأمريكيين والرّوس والعثمانيين والفرس، هو الذي جعل من الكورد فريسة دسمة في الشرق الأوسط قديما وحديثا تتقاذفهم أمواج المصالح والنفوذ، كانوا كـ "بيضة قبان" في كل مقايضة أو مناورة وصراع.
معاهدة لوزان وواقع كوردي جديد
في هذه الفترة يتحدث الجميع عن معاهدة لوزان، وأن نهاية مئويتها قد حانت، ويتساءلون عن مفعول هذه المعاهدة بعد انتهائها، هل سيستمر هذا الواقع؟ وهل هناك واقع جديد؟ وما مصير الدول التي تشكّلت من خلال تلك المعاهدة؟ وما مصير الشعوب التي ظلمت من تداعيات المعاهدة، كما الكورد والذي يشكل أكبر تجمع بشري في العالم وحتى الآن لا يعيشون في دولة مستقلة كـ باقي الشعوب، ومن أكثر الشعوب تظّلما، تعرضوا لمختلف أنواع الإهانة والمظلومية؟ وغيرها من التساؤلات التي تتسلسل على ألسنة وعقول الجميع.
هذه المعاهدة فرضت على الشعب الكوردي واقعًا جديدًا لم يألفه ولم يعشه في السابق، هذه الواقع الذي قسم الكورد بين أربعة أنظمة تختلف سياساتها وتوجهاتها ومواقفها عن بعضها البعض.
في وقت مضى كانت الاضطهاد الكوردي جماعي وعلى سوية واحدة، أي أن الكوردي في غرب كوردستان كما في الشرق أو في الشمال والجنوب يعيشون الحالة نفسها من الظلم والقهر والقتل والتشرد، التي قد تكون صراعًا داخليًا بينهم أنفسهم، كـ الصراع بين الإمارات والممالك الكوردية، أو خارجيا تكون الضغوطات من الإمبراطوريات والسلطنات على الكورد بشكل عام وبنفس السوية والمصير.
لكن ما حصل في معاهدة لوزان كانت الحالة أخطر وأصعب وأعمق، أحدثت شرخًا كبيرًا بينهم، كما وفرّقت الكورد ليس فقط بتصنيع الحدود بينهم، بل التفريق حتى في الخصوصية والمصير. الكورد تعرّضوا للإبادة والاضطهاد والمظلومية منذ فجر التاريخ حتى الآن، ولكن كان مصيرهم واحداً في السراء والضراء. الآن وبعد معاهدة لوزان، فالذي تغيّر هو انفصال نضال الشعب الكوردي عن بعضهم البعض، حيث أصبح لكل جزء نضاله الخاص به دون نضال باقي الأجزاء وكذلك مطالبهم، لكل جزء مطلبه الخاص ضمن الخصوصية الكوردية في ذاك الجزء، ومع ذلك بقيت الشخصية الكوردية في كوردستان بأجزائها كافة المستمدة من طبيعة كوردستان وخاصة قمم الجبال وصلابتها التي عوّدته على عشق الحرية، وربّته على النزوع إلى رفض القهر والاستبداد.
الصراعات الدولية الحالية ومصير الكورد ما بعد لوزان
بعد سرد كل ما سبق، نعود ونسأل، أين يتواجد الكورد في المعادلة الدولية؟ هل سيراجع من كان السبب في مظلومية الكورد واضطهادهم قراراتهم السابقة، وإعطاء أولوية حقيقية للشعب الكوردي في المرحلة القادمة؟، أسئلة كثيرة ينطق بها كل كوردي تعرّض للإبادة والقهر.
إن كثافة التحركات الدولية الحالية، وعمليات تشكيل أقطاب توحي أن منطقة الشرق الأوسط والعالم نحو مرحلة جديدة. أمريكا وبريطانيا وحلفاؤهما تتحرك وفق سياسة تشكيل قطب عسكري واقتصادي وتجاري قوي، والمحاولة لتقويض نفوذ روسيا والصين، والسيطرة على الاقتصاد والتجارة العالمية، وكذلك ما تفعله روسيا والصين مع حلفائهما بتوسيع قطبهما لسد الطريق أمام تحركات الآخر، كل هذه التحرُّكات، ومن كافة الأطراف والأقطاب تدفع بمنطقة الشرق الأوسط إلى بؤر صراع وفوضى أكثر شراسة يختفي فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان وكذلك تختفي مسألة حق تقرير المصير. حدة الصراعات بين الأقطاب تفتح الطريق إلى طفو الكتل الإرهابية والمنظمات المافاوية والميلشيات المتشددة والمتطرفة، وهذا في حدّ ذاته تدفع بالمنطقة إلى مصير مجهول.
امام كل ذلك والشعب الكوردي في كل جزء تتقاذفه صراعات بينية داخلية التي أوجدتها الأنظمة الغاصبة لكوردستان، ومعها الدول التي حرّمت الكورد من حق تقرير مصيرهم، مما يضعف جبهة موقفهم في المطالبة بالهدف الموحد والمحدد.
ما نلاحظه، أن الكورد يسيرون على حافة التشتت والتفتت في كل أجزاء كوردستان، وسياسة قصر النظر ما يطغي على المرحلة الكوردية الحالية، فقط إقليم كوردستان أثبت جدارته وقدرته على امتصاص الصراع الداخلي وقدرته على اللعب ضمن خيوط السياسة الدولية ما يتيح بصيص أمل أمام حتمية مصير الكورد نحو تحقيق أمل وتفاؤل لمستقبل كوردي واعد.