من المهجر .. الدكتور نمر محمد عبدو: غادرتُ الوطن جسداً .. والروح فيه باقية

من المهجر .. الدكتور نمر محمد عبدو:  غادرتُ الوطن جسداً .. والروح فيه باقية

ريزان باديني

الطموح اللامحدود يُرسي بصاحبه من كل بد على بر النجاح الذي كان قد خطط له بإرادة كبيرة وهمة ونشاط، أما الحياة فقد تكون قاسية في بعض الأحيان، وقد تذيق المرء منَّا مرارتها، وتنهكه بسطوتها أيضاً، وقد يحتاج المرء منا في بعض الأحيان إلى عامل الوقت لتجاوز كل العقبات التي تعترض طريقه ودروب أحلامه وآماله، فكما هو معهود فهنالك الصعب والشاق بين طياتها وهنالك ما هو سعيد وممتع وشيق.

اليوم وفي حوارنا الذي سنتحاور فيه مع ضيفنا والذي سيروي لنا لاحقاً مسيرته الطبية التي قضاها بالاجتهاد والاصرار اللذيْن قلَّ نظيرهما في بلوغ مراده المصطحب بمرارة الاغتراب.

اليوم وفي حوارٍ استثنائيٍّ خاصٍ لجريدة «كوردستان» ومن خلال الحيِّز الذي أكتب فيه بعنوان (من المهجر) كان لي شرف اللقاء والحوار مع الإستشاري والحاصل على البورد الألماني في الجراحة العصبية المجهرية المعقدة الدكتور نمر محمد عبدو ابن مدينة الحسكة والذي سيعرفنا بدوره عن نفسه كما وستكون لنا معه أسئلة كثيرة وحوار طويل لكن في البداية كان لابد لنا من إفساح المجال أمامه ليعرفنا عن نفسه قائلاً : أنا أدعى الدكتور نمر محمد عبدو من مواليد مدينة الحسكة ١٩٨٢ من عائلة كوردية مؤلفة من أب وأم وسبعة أولاد ثلاثة شباب وأربعة بنات ومن بين الشباب أنا أكون أصغرهم وقريتي التي أنتمي إليها بالأصل تدعى كرصور الواقعة بين مدينتي عامودا والدرباسية، متزوج ولدي ولدان.

بعد حديثٍ شيقٍ وممتع كان يتحدث فيها الدكتور نمر لنا عن مرحلة طفولته ومراحل دراسته سواء الابتدائية أو الإعدادية مروراً بالمرحلة الثانوية استوقفنا الحديث مطولاً عند المرحلة الجامعية، ماذا كان يدرس؟ كيف كان يقضي أوقات دراسته؟ أين كان يدرس وغيرها الكثير من الأسئلة التي تخللت غمار حديثنا وبالطبع وبحكم العادة أترك لضيفي الحرية المطلقة ليجيب لنا بكل أريحية عن أسئلتنا، ليتحدث الدكتور نمر قائلاً: بدأت الحياة الجامعية في العام ٢٠٠١ في جامعة حلب كلية الطب البشري حتى العام ٢٠٠٦ وهنا أستطيع أن أقول إن هذه المرحلة كانت جد مميزة في حياتي حيث العنفوان والنشاط اللامحدود والطموح الكبير لبلوغ الغاية المثلى التي كان يرسمها كل شخص منا لنفسه.

في لفتة أثناء حديث الدكتور نمر عن السنوات الدراسية في كلية الطب البشري أثار انتباهي إلى شيء وهو الحديث عن الاختصاص في مرحلةٍ مبكرةٍ، و بالتحديد منذ السنة الثالثة فكان لابد من استفسار هنا ليجيبنا قائلاً: ما أن بلغت السنة الثالثة من دراستي حتى بدأت أخطط في مرحلة مبكرةٍ للمستقبل ولما هو آتٍ فكان كل تفكيري ومبلغ طموحي أن أتخصص في مجال الجراحة العصبية المجهرية، وهنا قاطعت حديثه مستفسراً عن هذا الاختصاص، وما يحتويه من أمور تتعلق به فأجاب قائلاً : الجراحة العصبية المجهرية تتخصص بعدة أمور، ومنها جراحة الدماغ المجهرية وجراحة النخاع الشوكي وجراحة الشرايين في الدماغ بالإضافة إلى جراحة الأعصاب، ويتابع الدكتور نمر حديثه عن سبب تفكيره المبكر في هذا الاختصاص و هو لايزال في السنة الثالثة ليقول: كلي يقين أن هكذا اختصاص موجود في وطني سوريا، و لكن و بكل صراحة ليس بالمستوى المطلوب كما في بعض الدول كأوربا أو أمريكا فحاولت جاهداً أن أحظى بفرصةٍ في جامعات كل من فرنسا أو تركيا، أما في فرنسا فبحكم اللغة الأجنبية التي كنت أدرسها في مختلف المراحل الدراسية كانت الفرنسية، وهذا ما كان سيخفف عني عناء اللغة كوني كنت أتقنها جيداً لكن و لسوء الحظ لم تسعفني القدرة المادية لبلوغ هدفي هناك، أما في تركيا فقد كانت الأمور تأخذ منحى آخر من حيث تعديل الشهادة بالإضافة إلى عراقيل أخرى كثيرة وعدم الوضوح في الخطوات الأمر الذي دفعني عن الكف في التفكير في هذين البلدين على أقل تقدير بما معناه كانت مرحلة تتسم بالفتور بالنسبة لي من هذين البلدين من الناحية الدراسية طبعاً.

بعد ذلك الفتور الدراسي الذي رافق ما كان يخطط له الدكتور نمر وما كان يزرعه من أملٍ لبلوغ غايته المثلى في كل من فرنسا وتركيا عاد بنا الحديث من جديد إلى الدراسة في سوريا وما رافقتها من السنوات المتبقية للتخرج، فكانت تلك العودة مدخلاً لسؤالنا التالي والذي أجاب عنه الدكتور نمر قائلاً : في العام ٢٠٠٦ تخرجت من كلية الطب البشري وكان لابد لي من أن أجد مخرجاً لمواصلة دراساتي العليا فاضطررت للتسجيل في اختصاص بشكل مؤقت وهو التشريح المرضي وذلك في مشفى حلب الجامعي كي أتمكن من تحصيل تأجيلٍ لخدمة العلم وأكتسب بعض الوقت للعمل على ما خططت له من جديد وهو بلوغ المانيا هذه المرة، و يتابع الدكتور نمر حديثه بأنه في العام ٢٠٠٧ بدأ بجهوده الشخصية بتعلم اللغة الألمانية حيث أنه حصل على المستوى B1 خلال ستة أشهر وذلك بعد أن تقدم لإمتحان اللغة الألمانية في بيروت.

وفي سؤالٍ آخر عن بلوغه إلى المانيا ما إن كانت قد واجهته عقبات ومصاعب أجاب الدكتور نمر قائلاً : في الربيع من العام ٢٠٠٨ تمكنت من الحصول على الموافقة والقبول لعمل التخصص الذي أرغب به لدى مشفى فيفانتس في برلين وهنا ظننت أن المصاعب قد تحلحلت، واندثرت فبدأت على إثرها بدراسة المستوى الثاني للغة الألمانية وهو المستوى B2 و قد حصلت على شهادتها، وذلك بعد إتمامي لها في غضون عدة أشهر و في الشهر السابع من العام ٢٠٠٨ تركت المشفى الذي كنت أرغب بإكمال اختصاصي بها لعدم التوافق وسوء فهم من الإدارة في تقييم وضعي، فكما أسلفت الذكر بأني كنت أرغب في التخصص بمجال الجراحة العصبية وهم كانوا يظنون بأني متخصص بهذا المجال ولدي خبرة لعدة سنوات، ويتابع الدكتور نمر حديثه عن خيبة أمله لاسيما في هذه الديار الغريبة وهو وحيد هنا و كل شيء غريب من حيث العادات والثقافة كما وأنه لم تكن أعداد الناس من المتكلمين للكوردية أو العربية مثل أيامنا هذه، بالطبع هنا تلمست بوادر خيبة الأمل منه فكانت بدورها مدخلاً لسؤالٍ آخر ما إن كان قد استسلم، ورضخ للأمر الواقع، و إن كان قد قرر بالعودة إلى وطنه فكانت الإجابة منه سريعة بالنفي القاطع المحملة بروح الطموح والرغبة في بلوغ هدفه فقال: بعد السؤال هنا، وهناك تعرفت على شابٍ هناك في برلين وقد كان هذا التعارف محضر خيرٍ بالنسبة لي فبدأت و بمساعدته بمراسلة العديد من المشافي إلى أن حظيت بما أريد ففي العام ٢٠٠٩ حصلت على الموافقة والقبول من مشفى برلين للطوارئ في المجال الذي أرغب به، وهنا بدأت بكل جدٍ و نشاط بممارسة الاختصاص الذي كنت أصبو إليه وذلك لمدة سنتين في ذاك المشفى، وهناك تعرفت على دكتور متخصص بجراحة الأوعية الدموية، وهنا كانت المفارقة التي دفعتني وشجعتني أكثر فأكثر بعد تلك النصيحة الراقية التي قدمها لي، والذي لازلت أتذكر صداها في ذاكرتي وكياني حيث قال: إذا أردت أن تكون جراحاً ماهراً ومتمكناً وأنيقاً حاول أن تأخذ الخبرة من أكثر من مكان، وهنا أدركت على الفور المغزى من حديثه الراقي، وبالطبع أخذت بنصيحته، ففي نفس المشفى تدربت، وتعلمت عن طريق خمسة استشاريين في جراحة الأعصاب، ومدير المشفى نفسه كان الاستشاري السادس.

في سؤالٍ آخر عن الاختصاص الذي كان يتطلع إليه الدكتور نمر لاسيما أنه قد أتم سنتين في مشفى برلين للطوارئ حسب وصفه ما إذا كان قد آثر بالبقاء هناك أم أنه رغب بالانتقال إلى مشفى آخر أجاب قائلاً : طبعا في العام ٢٠١١ وأخذاً مني بتلك النصيحة التي قدمها لي الدكتور والإستشاري كريستيان كلز إنتقلت إلى مقاطعة أخرى وتدعى ساكسن أنهالت والتي تقع في شرق المانيا وبالتحديد إلى مدينة ديساو والذي كان هو بدوره يعمل هناك في مشفى ديساو الحكومي وذلك لزيادة خبرتي لاسيما في عمليات العمود الفقري وأورام النخاع الشوكي، طبعاً لابد لي من الإشارة إلى مساعدته الكريمة لي عن طريق نصحه لي بالإضافة إلى مساعدته لي في نقل متاعي إلى تلك المدينة، وبالطبع آثرتُ على الدوام في مشفى ديساو الحكومي حتى العام ٢٠١٢ و هي فترة أكسبتني المزيد من الخبرة .

في خضم هذا الحديث الشيق والممتع والمليء بالعنفوان والطموح اللامتناهي والذي أودُّ هنا بدوري أن أصل مع الدكتور نمر في حديثه إلى مرحلة الظفر بثمرة جهده الكبير وهو ما كان سؤالي التالي له فيجيبنا الدكتور نمر متابعاً حديثه بأنه في العام ٢٠١٣ وبعد أن جمع من الخبرة مزيدها انتقل مرةً أخرى لكن هذه المرة إلى مدينة دورتموند، و يتابع الدكتور نمر حديثه أنه في دورتموند بالفعل قد بلغ مرحلة حصد ثمار جهده، وأنه قد أتم إختصاصه ببراعة كبيرة، وأنه قد ظفر بتلك الشهادة التي لطالما كان يحلم بها وهي البورد الألماني في الجراحة العصبية.

هنا استوقفني الحديث عما إذا آثر الدكتور نمر البقاء في مدينة دورتموند لاسيما أنه قد نال ما ناله من مؤهلات علمية كبيرة فأجاب قائلاً : بالطبع هذه المرة أيضاً سأقول لا، حيث أني بقيت في مدينة دورتموند خمسة أشهر وبعدها حصلت على عرض أنيق في مشفى كاسل كاستشاري وهو ما كنت أصبو إليه لذلك إضطررت للإنتقال هذه المرة أيضاً إلى مدينة كاسل و بالطبع كان مشفى كاسل بالنسبة لي المدرسة رقم أربعة على الرغم من جمعي لخبرات كبيرة إلا أني أعدها أيضاً من المراحل التي زادت من خبرتي العلمية وأنا بدوري لازلت أقيم في مدينة كاسل إلى يومنا هذا.

في سؤالٍ آخر عن وضعه هناك، وآلية عمله كاستشاري أجاب الدكتور نمر قائلاً : في مشفى كاسل كنت ولازلت أعمل في مجال العمليات المعقدة، وبالطبع أشرف أيضاً على تعليم الأطباء الجدد.
بعد كل هذا العناء والجهد الكبير الذي كابده ضيفنا والذي تمكن في نهاية المطاف من تحقيق غاياته المثلى والتي كان يتطلع إليها بشغف إنتقلت بوصلة حوارنا إلى زاويةٍ أخرى وهي نظرته الشخصية إلى الواقع هنا في المانيا فأجاب قائلاً: بكل صدقٍ وإخلاص أنا أنظر إلى المانيا بأنها بلدٌ منصفٌ لكل مجتهد وذلك من عدة جوانب فعلى سبيل المثال القيمة الإنسانية وحرية التعبير شيئان مقدسان، والتعامل هنا على قدر المصداقية التي يتحلى بها المرء، أما من ناحية العمل فهو موفور لكل من يريد وبمعاشات ورواتب جيدة ومنصفة إذا ما صح التعبير، وبالطبع لكل قاعدة شواذ وأنا بدوري لم أكن ألتفت إلى الجانب السلبي ولطالما كنت أقيس الأمور بمنظورها الإيجابي.

في سؤالنا له عن الجنسية الألمانية ما إذا كان قد حصل عليها أجاب قائلاً : بالطبع حصلت على الجنسية الألمانية في العام ٢٠١٨ .
شيئاً فشيئاً، نقترب من نهاية حوارنا مع الدكتور نمر لكن لاتزال في جعبتنا أسئلة كثيرة، ومن بين تلك الأسئلة هي نظرته للراغبين من أبناء بلده بالقدوم إلى المانيا فأجاب قائلاً : المانيا بلدٌ جميل لكن الجمال وحده لا يكفي المرء أن يعيش حياةً كريمةً فلابد للمرء أن يضع هدفاً واضحاً نصب عينيه وأن تكون له خطط مستقبلية واضحة المعالم أيضاً، وأن يتخير تواقيته بشكل دقيق، وألا يضيعها سدىً، و بالطبع إذا ما وضع كل هذه الأمور بإحترافيةٍ، وبدأ ينفذها بدقة سيحصل على ما يريد إذا كان له دافع من الحصول عليها.

في سؤالٍ لطالما كان يخطر ببالي أن أسأله للدكتور نمر عن حنينه واشتياقه لوطنه لاسيما وأنه في البداية و قبل الخوض في غمرات حوارنا كان يحدثنا عن سوريا وعن بعض ذكرياته التي كان قد زرعها في ربوع الوطن فأجاب قائلاً : أنا شخصياً أعتبر نفسي بأني لم أغادر الوطن روحياً بل أرى بأني قد غادرت الديار جسدياً فقط، فروحي تطوف كل ليلة في كل أرجاء مدينتي، وتقرع في كل يوم أبواب الذكريات التي لطالما احتفظت بها بين جنباتي فأراني أزور أصدقائي تارةً، وأُسامر خلاني تارةً أخرى، أما عن أهلي فإن الروح تنازعني عليهم فصدقاً لم أجد أجمل وأروع من عاداتنا وتقاليدنا على الرغم من كل هذا التحضر من حولنا إلا أن تلك العادات بنظري هي الطاغية على كل شيء، ففي كل المناسبات كنا نجتمع سوية وكانت الضحكات وعياط الأطفال تملأ جنبات ديارنا رغم بساطة الأحوال إلا أن الأمور كانت تتيسر وهو ما كان يفرح قلب الجميع .

في سياق الحديث بادرت بسؤال ٍآخر ما إذا كان ضيفي الدكتور نمر يفكر في العودة إلى الوطن إذا ما سمحت له الظروف بذلك فأجاب بكل لهفة وشوق قائلاً: بالطبع، لم لا فأنا كغيري من المغتربين عن الديار وعن الوطن والأهل والأصدقاء كلي شوق في العودة إلى الوطن، لكن ولسوء الحظ وكما تعلم حضرتك، ويعلم الجميع أن الظروف الحالية غير مساعدة وغير مواتية في عودتي إلى الوطن لعدة أسباب، ولعل أهمها في نظري هي سوء الأوضاع الأمنية، فبين الفينة و الأخرى تتهافت إلى أسماعنا أمور لم تكن في الحسبان ، فأنا أريد لعودتي أن تكون ذا فائدة لأبناء وطني، وأن أكون قادراً على خدمتهم بما لدي من خبرة علمية اكتسبتها هنا في المانيا.

في نهاية المطاف كان لابد لنا من سؤالٍ أخير قبل أن نختم حوارنا مع ضيفنا الكريم، و هذا السؤال كان متعلقاً بالجانب الإنساني، وبما يمتلكه محاورنا من إمكانات علمية جبارة ما أن كان قد إنتفع بها أهله من أبناء وطنه من خبرته العلمية فأجاب قائلاً: بالطبع لطالما كنت حريصاً على تسخير كل إمكاناتي العلمية لأهل وطني، فمن هنا في المانيا استطعت وبحمد الله من تقديم إستشارات طبية لأكثر من مئتي وخمسة وسبعين حالة بمختلف أنواعها ضمن الاختصاص الذي أعمل به وهذا كان مبعث خير وسعادة بالنسبة لي.

في نهاية حوارنا مع الدكتور نمر و في كلمةٍ أخيرةٍ له توجه بالشكر والامتنان والعرفان لنا ولأسرة جريدة «كوردستان» لإتاحة الفرصة له لإيصال صوته إلى أهله وأصدقائه وأبناء وطنه كما وقد تمنى لنا ولجريدة «كوردستان» المزيد من النجاح والتقدم والازدهار .