في قاع البئر

   في قاع البئر

شمس عنتر

تقول دينيس جونسون: "ما الذي يمكن أن يكون أكثر وحدة من محاولة التواصل؟"
كانت تتدرب كيف تكون قوية بمفردها، وتحاول أن لا تكون حمقاء كبعض الذين يتحدثون إلى أنفسهم. لا يفوتها أن تصلي قيام الليل لمحاربة الأرق. حتى انها تتهم الشمس بالتأخر بالشروق، صمت الهاتف، واربع وستون وجعا يثقل كاهلها، العصا بجانبها والمسبحة لا تفارق أصابعها المتخشبة.
تعبت من الاتكاء على ذلك الحائط الذي أيقنت أنه كان مائلا قليلا، لكنه الآن يزداد ميلانا، والصدأ قد اعتلى أقفال الأبواب، الغبار استوطن بلور النوافذ، وهذا البرد الذي يهاجمها حتى في أشد الأيام حرارة، وفقدان صخب الصغار، والاشتياق إلى مناقرة الزوج الذي حرمت منه منذ عشرين سنة، وحزمة الدولارات التي تأخذ الكثير من وقتها الحُر وهي تغير مخبئها.
الوحدة رسمت نفسها بدقة على ملامحها، الشفاه متقوسة على الذقن والحاجبان تمكنا من محاصرة العينين بمساعدة خطوط غائرة من الأسفل. إنها أشبه بقطعة بلاستيك تركت بقرب النار فانطوت على نفسها خاصة بعد أن انكسر حوضها.
الحيرة تحوطها في هذا الطقس اليومي، تسأل نفسها أين اخبئ المال؟ في كوة الحائط المعدة لبوري المدفأة، أو ربما هنا، حشرت اللفافة داخل المخدة التي تتوسد عليها، ثم انتزعتها منها، ودستها في صدرها بين طيات جلدها المترهل وامعنت في شد خصرها، لكنها خلفت ورقة من فئة الخمسين دولاراَ على حافة النافذة. مسكين ذلك اللص تعب جداَ البارحة ورجع خالي الوفاض، قالت ذلك وهي تتخيل أطفالا جياع.
متلازمة ستوكهولم متمكنة منها، لطالما تردد اسم هذه المدينة التي تتبنى اغلى ما لديها. عنف الوحدة يوجعها بل يركلها على عامودها الفقري عند كل محاولة قيام وجلوس. انتزعت المفتاح من باب الحوش الذي تجمع فيه الكثير من الأتربة وأوراق الاشجار حول ذلك البرميل الذي تملؤه كل اسبوع لتحتاط من انقطاع الماء. وكعادتها توجهت لشارع عاموده فهي تكاد لا تعرف شارعا بقدره في قامشلو. كانت تتأمل المارة وهممت: الغريب يسكن هذه المدينة بشكل غريب!
وصلت إلى عيادة الطبيبة النسائية هيام موسى، قبل أيام كانت لدى طبيبة الأسنان بروجة عثمان. هذه الأسنان التي تخون البشر فهي تتآكل وتتفتت وكأنها تخبرهم بدنو الأجل، ثم اردفت: لكنني لم أقتن فرشاة أسنان ابدا. وزياراتها لدى طبيب العظمية جوان حمي مستمرّة، أصبح قريب منها، فهي لم تبخل بسرد أدق التفاصيل له.
بعد كل زيارة للطبيب تعود وقد فقدت عددا من هجمات المغص وكأنها تفرغ لديهم كيس اوجاعها فهي لا تعرف أي عضو في جسمها يحتاج للعلاج.
إنما تُراجع الأطباء كي تسمع ثرثرة المراجعين فهي تخشى الخلو إلى نفسها ولم ترَ علاجاً لهجمات الوحدة إلا بهذا التواصل، في الليل تحصي الخسائر التي منيت بها في طريق محاربة الوحدة ، لذلك لا تجد ضيرا أن تكشف عليها الطبيبة فهي لن تشتري الأدوية على أية حال، فقط تشتري التواصل ب خمس وعشرين الف ليرة سورية على شكل جرعات من الثرثرة.
اليوم الطبيبة أكدت عليها القيام ببعض التحاليل لكنها ضحكت في سرها، وعندما حاولت أن تغادر، منعتها الطبيبة بشدة وطلبت لها ممرضا يسحب الدم من وريدها هنا، عندما حاولت أن تتملص الطبيبة اصرت عليها ومنعتها من المغادرة.
بعد عدة أيام كانت أم حميد في العيادة حيث أفردت لها الطبيبة مساحة كافية من وقتها وهي تريد أن تخبرها أنها في مرحلة متأخرة جدا من سرطان الرحم لكنها عجزت عن ذلك.
فطلبت رقم ابنها وكتبت له : احجز صالة في ستوكهولم لتلقي العزاء بوالدتك، إنها مسألة أيام معدودة جدا.