توحش البعض

توحش البعض

حسين علي غالب

"كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ " انتقل منذ أيام إعلامي مشهور عند جوار ربه ، ونعم أنا أعترف أنني كنت شديد الانتقاد لعمله الإعلامي أما شخصية المغفور له فلم أتعامل معه لا من قريب ولا من بعيد، لكني ومثل الكثيرين تعلمت أن أدعو للرحمة والمغفرة لكل ميت.
تداولت وسائل الإعلام مشكورة خبر وفاته ولم تجعله يمر مرور الكرام، وهذا أمر متوقع فالمغفور له شخصية إعلامية مشهورة له باع طويل، لكن الصدمة هي بذاءة الكثيرين بحقه وعلى الخصوص عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
كمٌّ مرعب من الشتائم والاتهامات دون مراعاة حرمة المتوفى، وتعليقات تعلن فرحها وسعادتها أنه تعذب كثيرا قبل وفاته لأنه توفى نتيجة إصابته بوباء الكورونا .
أنني أمام مشهد اخلاقي مؤلم ودليل على توحش بعض أفراد مجتمعنا للأسف الشديد، وضرب بعرض الحائط لكل القيم والمبادئ الإنسانية النبيلة، أدرك حقا لماذا علماء الاجتماع ورجال الدين والنخبة المثقفة يدقون ناقوس الخطر.
أذكر أنني قرأت لأحد العلماء الألمان الذي عاصر فترة حكم هتلر كيف أن الشعب الألماني تعرض إلى انتكاسة في "منظومة القيم" بسبب الحروب التي خاضها وبات الفرد تصرفاته غير منضبطة ويمر بأزمة نفسية والعلاج يأتي بعد وقت طويل وتغيير في "التعليم والقوانين"، وهذا ما يجب أن نركز عليه "التعليم والقوانين" حتى نعالج هذه العقول مما أصابها.

أبي في القارورة

كم هو غريب رفيقي الهندي في السكن فتعلقه بهذه القارورة يثير استغرابي وتعجبي!!
هذه القارورة المغلقة لا يفارقها منذ أن تعرفت عليه وكلما أساله عما فيها يجيبني بجواب قصير لم أفهمه:
- أن روح وجسد أبي في هذه القارورة.
كيف أن روح إنسان في قارورة، وكذلك جسد الإنسان الضخم كيف يمكن وضعه في قارورة يتم حملها باليد..؟؟
اللعنة أن الخوف بدأ يتسلل إلي فقد يكون قد وضع في القارورة ذهب أو مال مسروق ولا يريد أن يريه لأحد لكي لا ينكشف على حقيقته.
كان لابد بأن أقرر قراراً مهماَ وهو بأن أفتح القارورة مهما كانت الوسيلة أو الثمن الذي أدفعه من أجل فعلتي هذه، راقبت رفيقي الهندي وإذ أجده يخرج من الشقة ولكنه لم يأخذ القارورة اللعينة معه.
تأكدت من خروج رفيقي الهندي وأخذت القارورة وحاولت فتحها ولكنني لم أنجح فهي مغلقة بأحكام شديد، رفعت القارورة عاليا ورميتها على الأرض بكل ما أملك من قوة لكي أكسرها ولكنني فشلت فالقارورة صلبة للغاية وكأنها مصنوعة من الفولاذ.
أعدت القارورة إلى مكانها وهي لم تتأثر، وعاد رفيقي الهندي ودخل إلى الشقة فوجهت أنظاري إليه وقلت له وأنا أشعر بغضب شديد: إن لم تكسر هذه القارورة فسوف اضطر لطردك من الشقة أو الاتصال بالشرطة.
صمت رفيقي الهندي لعدة ثوان بعدما انتهيت من كلامي وبعدها قال لي:
- أنا أسف لإزعاجك واليوم وبما أنه نهاية الشهر فسوف تشاركني حزني فقط انتظر لحظة غروب الشمس.
كالعادة لم أفهم كلام رفيقي الهندي فما دخل القارورة بمشاركتي حزنه، ولكن ما الذي سوف أخسره فبعد قليل تغيب الشمس وسوف أرى بعيني ما الذي تحتويه القارورة اللعينة هذه.
حان وقت غروب الشمس وخرج رفيقي الهندي مسرعا من الشقة وأنا اتبعه حتى توقفنا عند مرتفع قريب من شقتنا وأدخل إصبعه في القارورة وفتحها وسلمني أيها، أدخلت يدي في القارة ولم تكن تحتوي سوى على رماد جزء منه باللون التراب والجزء الأخر لونه أسود.
التفت إلي رفيقي الهندي:
- أرجوك أنثر الرماد كله في الهواء الآن وبعدها أترك القارورة على الأرض.
نفذت كلام رفيقي الهندي ونثرت الرماد كله في الهواء وبعدما انتهيت تركت القارورة اللعينة على الأرض، نظرت إلى رفيقي الهندي وإذ أجده يبكي بغزارة فقلت له:
- لماذا تبكي ...؟؟
- لقد أطلقت سراح روح وجسد أبي الآن.
لم أفهم كلام رفيقي الهندي:
- وما دخل أباك بهذه القارورة..؟؟
-هذه من عاداتنا الدينية.
عدت أنا ورفيقي الهندي إلى الشقة، ولكن كان لدي سؤال واحتاج لإجابته وهو ما دخل أبا رفيقي الهندي بالقارورة.
لم استغرق وقتا طويلا لكي أحصل على الإجابة فلقد بحثت على شبكة الانترنيت عن معلومات عن العادات الدينية في الهند حتى عرفت بأن الأبناء يحرقون أجساد إبائهم وأمهاتهم ويجمعون رماد أجسادهم ويضعونها في قوارير وبعد مدة ينثرونه بالهواء لكي تتحرر أروحهم وأجسادهم من الخطايا والذنوب، ورفيقي الهندي جعلني أنثر رماد جسد أبيه المحترق في الهواء.