ظل اليباب

ظل اليباب

شمس عنتر

يقول نجيب سرور "الحق أقول لكم.. لا حق لحي ؛ إن ضاعت في الأرض حقوق الأموات"
بدأ الدرس مساء ، حينما كان النهار يلملم أطرافه ببطء، كانت بعض خيوط النور تأبى الاستسلام، تستمد جبروتها مما تبقى من الشمس وهي تغطس في غسق الأفق، استغلت المعلمة سارة اللحظة الأخيرة قبل أن يسدل الليل أجنحته على عش الكون، ويعلن سلطة الظلام، فأشارت بعصاها إلى الشمس الآفلة، وقالت لتلاميذها : ها هو أمير الظلام يستدعي الشمس التي تمردت، وعصت الأوامر، وتأخرت في العودة إلى مأواها، سيحبسها، ويلقنها درساً في الانضباط، ثم سيعمد إلى فوانيسه المعلقة هناك، ليوقد فيها من أذيال الشهب بريقًا يتلألأ في ملكوت السماء، ثم عادت سارة ثانية، ورفعت عصاها نحو الأعالي حيث تتناثر الفوانيس كقطرات ندى متجمّدة وقد حبست في داخلها شعاع خافت.
تلاطم التلاميذ على غير هدى، بين مذهول قد فغر فاه تعجبًا، وبين متهكّم قد كتم ضحكة كادت أن تنفجر، وتجلب على رأسه ضربة عصا عشوائية، بينما كان بعضهم يتحيّن الفرصة ليهرب من الدرس قبل موعد الانصراف، والعودة للمنزل، آخرون كانوا يتراشقون بالحصى، وإلى جوارهم تلميذ يحاول سحب سيخ حديد من قلب كتلة اسمنتية كانت قطعة من عامود يرفع بناية هنا.
إنهم في تلك الحفرة التي خلفتها شاحنة رعناء حينما مرت بالقامشلي، وأفرغت غضب الديناميت المتكوم في صندوقها الخلفي نارًا وجحيمًا في الشارع الرئيسي بالحي الغربي، تلك الحفرة التي احتفظت ببقايا عواميد إسمنتية وأسياخ حديد وبعض النفايات، والكثير الكثير من أرواح الذين قادتهم الصدفة إلى هنا ليلتهمهم لهيب الشاحنة، ولم يترك من أجسادهم غير أرواح شفافة ما زالت تكمل أحاديثها هنا. ذات حزيران منذ سنين مدججة بالدم، ما تزال هذه الحفرة تحتضن تلك الأرواح، في جهة الشرق منها كان هناك معمل الثلح المشهور في القامشلي، يقابله محلات كمال كوري للحلويات، تلك المعالم أصبحت من الذكريات.
جوان ذو الشعر الأحمر، غلبته قهقهة متمردة، فنزلت على رأسه ضربة عصا، كان خيط الدم القانئ يبدو لامعاً بين خصلات شعره الحمراء، قفز من مكانه، وحط ككرة نزلت من عتبة السماء، وباتت تعلو وتهبط كلما لامست الأرض، بينما تدافعت الشتائم تفر من بين أسنانه المنخورة، لحقته المعلمة فيما كان يحاول الوثوب إلى خارج الحفرة.
ولحق السرب كاملًا بالمعلمة وهو يهتف: مجنونة، مجنونة، مجنونة.
أوقف أحدهم هؤلاء الصبية، وأبعدهم عن المعلمة سارة، ثم أخذ بيدها، وسار بها بلطف إلى حي الوسطى، وفيما كانا يتمشيان، ركلت سارة شبه حقيبة جلدية تالفة، ثم قرفصت، وصارت تزيل الأتربة عن الحقيبة بحركة بطيئة وكأنها تمثل مشهداً سينمائياً، رفعت رأسها نحو الشخص الذي رافقها، كان بريق متهالك يشع من عينيها، وظهرت التجاعيد الناعمة وهي تغزو خديها، حينما همّت تزيل خصلة بيضاء من شعرها عن وجهها، ثم قالت له:
بتتذكر هداك اليوم مو هيك ؟ وبدأت تعيد سرد القصة: كادت الأرض أن تميد، وامتلأت السماء برماد الجحيم، حينما ارتجفت المدينة جراء هدير الانفجار، هرولت المعلمات والمعلمون في مدرسة زكي الأرسوزي مع التلاميذ إلى شارع الوحدة .
رغم أن بيتها كان بعيداً عن مكان الانفجار لكن قلبها شعر بوخزة حادة: ترى أين سيكون سعيد الآن؟ كانت توسوس في نفسها: هذه الهجرة تسرق أرواحنا والانفجارات تحصد الباقي منها.
أي مصادفة جعلته يكون في محل للهواتف بلحظة الانفجار! هي تسرد قصة وحيدها سعيد وكيف قضى بالانفجار، ومعاناتها من الوحدة.
تألم مرافقها رغم أنه سمع منها هذه القصة حد الملل، فقد كان زميلًا لها في المدرسة. يتأسف لما آل إليه وضعها، ومعاناتها الصارخة، وفقدانها لتوازنها النفسي، سارة ذات الشخصية القوية الصارمة، تحولت إلى هيكل عظمي هزيل متسخ. شرع زميلها الذي يرافقها يلعن الإرهاب، ويلعن السياسة، ويلعن المسلحين والمتشدقين بحقوق الإنسان حتى كاد أن يفقد وعيه، ولم يفق من غفلته إلا على صوت قهقهة سارة التي انتزعت تلك الحقيبة من بين القاذورات وهي تصرخ: بدي أروح لعند سعيد...