الصحراء تضرب مملكتي!!

الصحراء تضرب مملكتي!!

هيثم اسماعيل مراد

في صغري كنت أهوى هذه اللعبة والتي هي عبارة عن أحجار صغيرة وقطع من عيدان الخشب المتساقطة على الأرض وبعضاً" من القصاصات الورقية، لم تكن كباقي اللعب أو النشاطات اليومية التي يقوم بها أي طفل يعيش في قرية صغيرة، بل كنت تستطيع أن ترسم من خلال هذه اللعبة معالم الحياة والتفكير الإبداعي والإنساني للمستقبل الأفضل، خلال لحظات تصبح تاجراً وغنياً" وتمتلك الكثير من المواشي والبيوت وتفتح الشوارع وتبني قرى، وتقيم الدول وترفع الأعلام الخاصة بدولتك، وتأمر بفتح المدارس وتؤسس جيوشاً قوية وتخوض حروباً عديدة، وتخرج منها بالفوز الدائم، تنادي بالعدل والمساواة، تزدهر دولتك الخشبية إلى مقام الدول الكبرى، كل شيء جميل فيها وهي تشكّل لوحة الطبيعة الساحرة في العالم، وفي ربوع بلادي الجميلة، حيث تسيح الجداول مترنمة في دفقها النابض مع ذوبان كتل الثلوج وانحدارها في الاعماق لتلون حنايا الوديان، وتزرع الأمل في شرايين الحياة حيث البابونج والقرنفل وعناقيد الياسمين تحيط المكان بعبق لا يزال يعطّر الانوف مع جوقة البلابل والشحارير تفيض بأنغامها العذبة مع ساعات الصباح الندي حيث تنتهي اسرابها الى اشجار الدلف والبلوط والصنوبر، وألوان الأيك الملتفة.
أحاول الخوض في أسرار دولتي فلم أجد السبيل سوى الاقتراب من أحدهم ليهمس بأذني عن الجانب الآخر والمظلم لدولتي الصغيرة..! أن هذا الرجل تحدث عن كل شيء تحدث عن مواضيع وحوادث كنت غافلاً عنها ليفتح امامي جعبة فيها عشرات القصص عن الموت والدمار، والجرحى والتهجير، قصص عن أجسادٍ تتعلق على المشانق وقصص عن ظالمٍ يزيد من إجرامه ضد أهله والتي لم يطالب يوما" إلا العيش بكرامته فيجابه بلغة الدم والتهجير.
انتابني شعور غريب، وبدأت يداي ترتجفان وصدري أصابه الاختناق، وبدأ لساني بالتلعثم فتوقف عن النطق خجلاً وخوفاً على مصير هؤلاء الذين يعيشون الجحيم وكلها بسبب لعبة اخترتها..!
في هذه اللحظات التي أحاكم نفسي تهب رياح قوية مغبرة بتراب الصحراء لتضرب مملكتي وتقلبها على أعقابها، لم يبقَ شيء من هذه الدولة التي أسستها، تلك الجدران المرتفعة انهارت، وتوقفت الأنهار عن الجريان وغابات السنديان احترقت، وتوقفت الحياة فيها، انتهت قصتي ولكن مملكتي التي في الخيال لازالت تقاوم ولا مصير أمامها إلا الزوال ...