الخُرافة - الأُسطورة - العِلم

الخُرافة - الأُسطورة - العِلم

محمد رجب رشيد

فضول الإنسان قادَه منذ القِدم إلى محاولة فهم كُل ما يحيط به ويُصادفه، وقد سَعى جاهِداً لتفسير الظواهر الطبيعية والكونية ومعرفة آثارهما عليه. آثَرَ الإنسان في البداية عدم مواجهة الواقع مباشرة لصعوبتها ولِما تتطلّب من نُضج فكري لم يكن قد بلغه في طفولته الفكرية المُبكِّرة، فأطلق العنان لمخيّلته وانفعالاته بحثاً عن ماهيّة كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، وانتهج في محاولته عِدة أدوات حسب الأرضية المعرفية لكل زمان ومكان بدءاً من الخُرافة إلى الأسطورة ومؤخراً العِلم.
إنّ الاختلاف الكبير والظاهِر بين العِلم من جهة والخُرافة والأسطورة من جهة أخرى لم يحُلْ دون وجود عامل مشترك وحيد بين الجهتين هو تفسير الظواهر الطبيعية وإنْ اختلفت التفاسير، ومعرفة علاقتها بالإنسان وكيفية تسخيرها وتوظيفها للاستفادة منها.
بالعودة إلى تاريخ الإنسانية نجد أنّ الخُرافة والأسطورة كانتا الإجابة الوحيدة لجميع تساؤلات الإنسان باختلاف مجتمعاته لعشرات الآلاف من السنين، أمّا العِلم بالمفهوم الحالي الذي يجمع بين الملاحظة والتجربة وِفق منهج محدّد فإنّه حديث العهد نسبياً. الإنسان بطبعه يميل إلى إيجاد أعذار للأشياء السيّئة التي تحدث في الحياة، خاصّة في مجتمعات الجهل والفقر، هكذا وُلِدَت الخُرافة كَداء ودواء بنفس الوقت للتغلُّب على الواقع المرّ الذي يعيشه الناس، أو لِتخويفهم من قبل الأشرار بغرض السيطرة عليهم وسَوقِهم إلى حيث يشاؤون.
تُعرف الخُرافة بِنسق من العقائد ذات الصِلة فيما بينها وبين الخيال، مُشكِّلاً بذلك إحدى أدوات التنبُّؤ وتفسير الظواهر الطبيعية بآليات تنتمي إلى ما وراء الطبيعة بعيداً عن العقل والمنطق والافتقار إلى الدليل المادي. تتأرجح الخُرافة بين الطابع الديني والآخر الاجتماعي، تمثّل الطابع الديني في أوهام من قبيل نزول المسيح عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان، ظهور المسيح الدجّال، ظهور المهدي المنتظر، وجود الأقرع الشجاع، وأنكر ونكير، عذاب القبر. أمّا الطابع الاجتماعي فله أيضاً نصيبٌ وافِرٌ من الخُرافة كَالخرزة الزرقاء لِمنع الشر، حدوة الحصان لِجلب الخير، تعليق الأقفال على الجسور لتحقيق الأمنيات، التشاؤم من القطة السوداء والرقم ثلاثة عشر، رفّة العين اليمنى فرح قادِم، رفّة العين اليسرى حزن قادِم، حكّة باطن اليد اليمنى رزق قادم، حكّة الحاجب قدوم ضيف، الإخبار بالحُلم السيّئ يجعله يتحقّق، كثرة الضحك يتبعها مصيبة، .... إلخ. رغم هذه الأوهام فإنّ الخُرافة لا يُستهان بها أبداً، لها أنصار في أغلب أنحاء العالم، وستبقى متلازِمة للإنسان طالما بقيَ فراغ معرِفي ينتظر إجابات جديدة.
الأسطورة هي بِناء خيالي من الأفكار والسرديات، الأفكار لِتفسير الظواهر الطبيعية والكونية بعيداً عن العقل، ومعرفة علاقتهما بالإله أو الآلهة. لقد وردت كلمة أساطير في المِصحف (القرآن) للتعبير عن القصص القديمة للأولين، ولذلك نجد بعض التشابه بين الأسطورة والكُتب السماوية القديمة، ويعود ذلك إلى كَون الأسطورة تضم بقايا الحقّ التي جاء بها الأنبياء السابقون من الله سبحانه وتعالى. أمّا السرديات في الأساطير فهي الحكايات أو القصص الخيالية المُشوِّقة والخارِقة للطبيعة، من أشهرها كليلة ودمنة، ألف ليلة وليلة، سندريلا، بياض الثلج، الأميرة النائمة، سندريلا، حورية البحر، روبِن هود، مَم وزين،.... إلخ.
فيما مضى أضافت العديد من الشعوب أساطيرها وحكاياتها البطولية أو الخرافية إلى تاريخها معتبرةً إيّاها توثيقات وروايات حقيقة لماضيهم السحيق. ربّما درس القُدماء الأساطير، ولكنَّ علم دراسة الأساطير (الميثولوجيا) بالمعنى العلمي الدقيق لم يتأسّس إلَّا في سبعينيات القرن التاسع عشر كفرع من العلوم الإنسانية، هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عِلم دراسة الأساطير يختلف عن عِلم الأساطير.
تعود جذور العلوم بشكل عام إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين، والعِلم بالأصل هو أداة من أدوات المعرفة بالإضافة إلى الفِطرة التي فطر الله الناس عليها، بمعنى أنّ المعرفة مصطلح أعمُّ وأشملُ من العِلم. يشير العِلم إلى منظومة من المعارفِ المتناسِقة والمُعتمِدة على المنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجربة فقط، الأمر الذي جعله لا يتطرّق إلى العقائد وغير معنيٍّ بتحديد ما هو الصواب وما هو الخطأ فيها. لقد بلغ العلم كما نرى الآن كل مبلغ، فلم يترك مجالاً إلا وحقّق فيه ما كان يُعتقد مستحيلاً، والإنجازات العلمية فاقت التصوّرات، وكلما تقدّم بنا الزمن انتشرت المعرفة وتقلَّصت الغيبيّات، فالغيبيّات التي كانت سائدة قبل قرون أصبحت الآن حقائق. على الرغم من ذلك فإنّ صِراع العِلم مع الخُرافة والأسطورة لم ينته بعد، بالطبع الغلبة دائماً لِمن يأتي بالدليل المادي على ما يدّعي، وهو ما يفتقده كل من الخُرافة والأسطورة، إلا أنّ ذلك لا يعني اندثارهما نظراً لقدرتهما على البقاء في المجتمعات لفترات طويلة كَجزء من الفلكلور الشعبي أو مادة للتسلية. عندما نستمع إلى حكاية أسطورية أو نشاهد فيلماً حول قصة أسطورية يعود بنا الزمن إلى الماضي فَنتفاعل معها وكأنّنا نعيشها، نفرح لانتصار البطل، وكأنّنا نحن المنتصرون، ونحزن لخسارته وكأنّنا نحن الخاسرون. حقاً إنها حكايات مُشوِّقة تُريح النفس، ولكنها لا تُشكِّل بديلاً عن العِلم بأي شكل من الأشكال، فالعِلم هو الآخر له سِحره الذي يجمع بين المتعة والمنفعة، بينما الخُرافة والأسطورة فقد سبق لهما أن أودتا بالمجتمعات إلى السقوط في وديان سحيقة من الجهل عندما تجاهلت العِلم ونسبتْ الظواهر الطبيعية إلى غير مُسبِّباتِها.
لم تعُد الأساطير محصورة بالماضي السحيق فقط، فعالمنا اليوم لا يخلو منها وإن كانت نادِرة، في الآوِنة الأخيرة عادتْ إلى الحياة أسطورة قديمة بعنوان جديد هو (قانون الجذب) الذي يدّعي أنّ تَمنِّي الشيء والتفكير المستمر به يُحقِّقه، البعض صدّق قانون الجذب وأُعجِب به، والبعض الآخر ذهب إلى أبعد من ذلك فكتب عنه مجلدات بِغرض تشكيل عقل جمعي جديد في المجتمعات. إنّ تحقيق الأُمنيات دون بذل مجهود كالمُخدِّر ينقل المرء إلى عالم الأحلام لفترة قصيرة، ثم يعود به إلى الواقع خالي الوِفاض، وأخيراً أقول: كُلما ازداد الإنسان عِلماً اقترب من الله تعالى دون أن يصل إليه، وأنْ تكون عارِفاً تعيساً خيرٌ لك من أن تكونَ جاهلاً سعيداً.