الجماهير والقطيع

الجماهير والقطيع

محمد رجب رشيد

الجماهير والقطيع، مصطلحان متشابهان إلى حدٍ ما مع بعض الفوارِق الجوهريّة، من أهمّها أنّ الجماهير هي من تختار العبودية الطوعيّة أحياناً في سبيل تحقيق هدفٍ ما، ويمكنها التحرُّر منها متى شاءت، بينما القطيع تُفرض عليه العبودية قسراً بعد سلب إرادته ومصادرة حريته، بحيث يتعايش معها، ويجد فيها سعادته مع مرور الزمن. وأنّ الانتقال من مرحلة الجماهير إلى مرحلة القطيع يكون بفِعل محرِّض أو مُحرِّك طالِح، خِلافاً لِحركة التطوّر من البشرية إلى الإنسانية والتي كانت مع نفخة الروح من الله سبحانه وتعالى. كيف نفهم ذلك؟
من المعلوم أنّ الإنسان الفرد يُشكِّل اللبنة الأساسية لأي تجمُّع إنساني، والتجمُّعات تختلِف عن بعضها بكيفية تشكيلها، أهدافها، الرابط بين أفرادها، لعلّ الجماهير والقطيع من أهمِّها.
تُعرف الجماهير بالظاهرة الاجتماعية التي تتصِف بحالة نفسية موحّدة لأفرادها بغضِّ النظر عن قوميتهم، دينهم، جنسهم، مهنتِهم وعُمرهم، وأيّاً تكن المصادفة التي جمعتهم، كَمشاهدي مباريات كرة القدم في الملعب، المتظاهرين في الشوارع والساحات، المُصلُّين في المساجد أيام الجُمع، الحُجاج والمُعتمرين في بيت الله بِمكّة. بالطبع الجماهير تختلف عن التجمُّعات العادية أو العفوية كتلك التي نجدها في صالات المطارات أو محطات القطار أو الساحات العامة.
لقد كان للجماهير دورٌ ما عِبر التاريخ، لكنّه لم يكن بنفس الزخم والأهمية كما هو عليه اليوم في الدول الديمقراطية. فقد أصبحت التقاليد السياسية والتوجُّهات الفردية للملوك والحُكّام عديمة التأثير على مسار الأحداث إلّا قليلاً، وأصبح صوت الجماهير راجحاً، الأمر الذي جعل مستقبل الشعوب يُرسم في مجالس الشعوب بدلاً من بلاط الحُكام.
إنّ دخول الطبقات الشعبية في الحياة السياسية وتحوّلها التدريجي إلى طبقات قائدة يمثِّل أحد أبرز خصائص العصر، باستثناء الدول التي مازالت خارج العصر والتاريخ. حيث تنصهر أفراد الجماهير في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية، كالمركّب الكيميائي الناتج عن اتحاد عِدّة عناصر مختلفة تذوب في بعضها، وتفقد خواصها الأولى لصالح المركّب الجديد. إلّا أنّ السلوك اللا واعي للجماهير والتناقض الواضح في الأفكار والآراء مازالا يفعلان فِعلهما، فالأفكار هنا لا تحتمل المناقشة، إمّا أن تقبل قبولاً تاماً، أو تُرفض رفضاً مطلقاً، أمّا الآراء فإنّها تنقلِب إلى نقيضها من حينٍ إلى آخر بمنتهى السهولة.
تبقى الجماهير مستعدّة للتضحية دون مقابل في سبيل الأهداف السامية طالما كان مُحرِّكها أو محرِّضها رمزاً صالحاً، أمّا إذا كان من الرموز الطالِحة كَداعيّة يدّعي نشر الدين والدفاع عنه أو منافق فاسِد يدّعي السياسة والدفاع عن القضية، فإنّه سيجعل من الجماهير قطيعاً ذا قوة عمياء مجرِمة ومدمِّرة، لا تميِّز بين الحق والباطل، وبين البطولة والتهوُّر، هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ العبودية لا تقتصر على قيود في الأيدي والأرجل، بل إنّ العبودية الحقيقية هي موت الإرادة واستسلام العقل للغير أو تعطيله، فالعبودية حاضِرة حيث يكون التطرُّف الديني أو الاستبداد. من هنا جاء مصطلح سلوك القطيع، والذي كان بالأصل يُطلق على نشاط الحيوانات في القطيع، أو الطيور في السرب. ويشير إلى السلوك الجمعي للأفراد في التجمُّعات التي ينتمون إليها دون تفكير أو إرادة أو تخطيط مُسبق، واستعدادهم لإنكار الذات والسير في مسار مُحدّد لِأداء الدور المرسوم لهم بِدقّة دون اعتراض أو تمرُّد أو مجرّد التفكير فيهما، مِمّا يؤدّي إلى حدوث تغيير على نفسيّتهم مشابه للتغيير الذي يتعرّض له الإنسان أثناء التنويم المغناطيسي، فكل فرد في القطيع يتبِّع أقرانه في أي فعل بغضِّ النظر عن صحته أو بطلانه، هذا الأمر يُسهِّل عملية سَوقهم إلى مظاهرات للدفاع عن رموزهم المُزيّفة والمستبدّة بما يضرُّ ولا ينفع، والإساءة إلى المناضلين الشرفاء. يحدث ذلك بين الحين والآخر في مناطق الإدارة الذاتية بكوردستان سوريا، وآخرها كان في مدينة كوباني.
يتفق علماء النفس على أنّ نفسيّة الأفراد المنخرطين في القطيع تختلف عن نفسيّتهم الفردية، فما إنْ ينخرط الفرد فيه حتّى يصبِح كالعبد المملوك، يتخذّ سِمات خاصة لم تكن موجودة فيه من قبل، فضلاً عن تعطيل العقل، وبالتالي غياب أيّ دور للفِكر، لا شك أنّ هذا السلوك يخلو من المعرفة والإبداع تماماً لِكَونِه تابعاً لإرادة الفرد الواحد المُقدّس من أتباعه إلى درجة العبادة.
إنّ قوة الخطاب الموجّه للقطيع مرتبطة بالمشاعر التي تثيرها، حتّى وإن كان بعيداً عن معانيه الحقيقة، والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق (الحرية، الديمقراطية، المساواة، العدالة الاجتماعية، القضاء على البطالة، ...إلخ) هي التي تمتلك أكبر قدر من التأثير والفِعل، كما لو أنّها تحمل حلولاً لجميع مشاكلها، لِكَونها تجمع بين المطامح اللا واعية والأمل بتحقيقها. أمّا الدين لدى القطيع فلا علاقة له بالأخلاق الفاضلة، هو مجرّد استيفاء للشكل والمظهر (لحية، جلباب قصير، عادات وتقاليد قديمة، نقاب، ..إلخ). ويبقى الأخطر ثقافة القطيع التي تقتصر على الكذب، الاحتيال، التخوين، تكفير كل مختلف، الإفتاء بقتله دون أي حرج أو شعور بالذنب أو تأنيب الضمير إلّا حين تفوتهم إحدى الصلوات.
في الحياة نجد سلوكيات جماعية عفوية تشبه سلوك القطيع إلى حدٍّ ما، عندما تخرج مظاهرة يلتحق بها البعض بشكل عفوي، فتكبُر خلال دقائق كَكُرة الثلج، وكلما كبُرَتْ تصبح أكثر إغراءً للانضمام إليها، في صالة المسرح يصفق أحد الحضور فيصفق الجميع دون تفكير، إقدام المرء على التبرُّع بالمال يزداد كلما كبُرت قائمة المتبرِّعين. أثناء المفاضلة بين شيئين عادة ما يختار المرء الأكثر رواجاً، ويزداد إعجابه بسلعة ما فقط لِكِثرة الأشخاص الذين يشترونها، .... إلخ. ما أكثر القُطْعان حولنا! وما أقل الجماهير!
كي لا نكون من ضحايا سلوك القطيع يجب الإلمام به، وعدم السير خلف ضجيج الحشود، والحرص على احترام عقولنا، وترك عاطفتنا جانباً عندما يتعلَّق الأمر بتهديد واقعنا ومستقبلنا، فالعاطفة في صراعها الأبدي مع العقل لم تكن مهزومة، يقول الدكتور محمد شحرور -رحمه الله-: (في جميع كتاباتي احترمت فقط عقول الناس دون عواطفهم). لنسلُك طريق الحرية، ولا يضرُّنا قِلّة السالكين، ونتجنّب طريق العبودية، ولا نغتر بكِثرة السالكين.