مكر العقل .. بين سندان الواقع المر ومطرقة التنوير

مكر العقل .. بين سندان الواقع المر ومطرقة التنوير

صالح محمود

نظرية مكر العقل هي إحدى نظريات الفيلسوف الالماني هيغل الذي كان يجتمع مع صديقيه في غرفة واحدة، وكانا فيلسوفين مثله وكان ثلاثتهم يستيقظون في الساعة الرابعة صباحاً ليكملوا نقاشاً - بدؤوه ليلاً - حتى ساعات متأخرة من النهار، وبذلك أصبح هيغل ابو الجدل او ابو الديالكتيك .
لم يضع هيغل نظرية فلسفية، ولم يكتفِ بتفسير العالم بل ذهب أبعد من ذلك، لقد وضع هيغل منهجية فلسفية سار عليها الفلاسفة والمفكرون وهذا الأمر ميزه عن باقي الفلاسفة .
لم يظهر على مدى مئتي سنة فيلسوف أو مفكّر استطاع تجاوز هيغل، لقد اعتقد هيغل بأنه لا يوجد هناك شر مجاني وأن الشر يفضي بالضرورة إلى الخير، والعقل البشري ماكر وقادر أن يحوّل أفظع الشرور إلى خير عميم وهو قادر أن يحول البؤس والشقاء إلى رخاء، والشر على مر التاريخ كان له وظيفة وقد استخدمه العقل البشري الماكر للوصول الى الخير، وقد دعم هيغل نظريته بالاستشهاد بالكوارث التي حدثت في الحروب الأهلية والمذهبية بين الطوائف في اوروبا (الكاثوليك والبروتستانت) في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي أدت الى إبادة الملايين من البشر نتيجة العنف الهائل الذي رافقها لدرجة أنّ دولة مثل ألمانيا فقدت حوالي نصف سكانها. وقد أعقبت تلك الحروب مرحلة تنوير في اوروبا: تنوير فكري، تنوير فلسفي وتنوير ديني، لقد منحت هذه الحروب للشعوب الشجاعة الكافية في التمرد وكسر جدار الصمت، وأصبح الفلاسفة والمفكرون يطرحون أفكاراً جديدة ما كانوا ليجرؤوا على طرحها فيما مضى..
لقد أنتجت طروحاتهم واسئلتهم حركة تنوير جاءت كرد فعل على الدمار والخراب الذي وقع اثناء تلك الحروب، طروحاتٌ وأسئلة مسّت في أغلبها التراثَ الديني الكنسي المقدس.
واستطاع المفكرون أن يحيّدوا الدين، ويلجؤوا الى العقل لرسم وصياغة اطارٍ جديدٍ لحياة المجتمع بدلأ من التعصب وخوض حروب مذهبية ودينية تؤدي في النهاية الى ويلات تحل بالجميع، أي أن المشكلة في اوروبا في عصور الظلام كانت مشكلة لاهوتية وفقهيةً أخّرت وقيّدت حركة التطور والتنوير عند شعوب اوروبا كلها ولقرون عديدة.
إن منطقتنا هذه بدورها تعرضت، وتتعرض في هذه اللحظة الى كوارث من ذاك النوع على يد قوى ظلامية كداعش وغيرها من الفصائل الراديكالية المتشددة وهذه القوى سوف تسرّع من حركة التطور بطريقة غير مباشرة، وسنوات الظلام ستعقبها عصور أنوار ولحظات من الرخاء. هكذا هو التاريخ، فالشعوب لا تتعلم إلا من تجاربها الخاصة.
يرى محمد اركون المفكر الجزائري أن جوهر المشكل عندنا هو فقهي وديني بالدرجة الأولى، فالفقه الذي يقودنا ويسيطرعلينا هو فقه القرون الوسطى، نحن بحاجة الى فقه جديد يُماشي الواقع الحالي بكل تجلياته، بعيداً عن فقه ابن تيمية الذي اصبح قديمأولم يعد صالحأ لزماننا، وهناك يقينيات فقهية اذا استمرت في وضعنا الراهن سوف تؤدي الى مجازر وويلات، ولا يخفى على أحد ان داعش تطبق أجزاء من هذه اليقينيات وبعض فتاوى ابن تيمية، ألايعد هذا أمرأ كارثيا؟ نحن أمام تحدٍ هائلٍ وكبير، لذلك فإن حركة النهضة المرتقبة تتوقف عليها مهمة تغيير هذه اليقينيات الفقهية، وأن تستبدل بها يقينيات تُماشي روح العصر، كما أن الاجيال القادمة عليها أن تمتلك الشجاعة الكافية في مناقشة وغربلة التراث الديني وإلا سيصعب علينا مواكبة العالم .
كان فولتير يقول: دائماً إنه زرع ولم يحصد ما زرعه بل ترك الامر للأجيال القادمة فهي عليها ان تحصد .
إن الفكر يسبق الواقع، والتحولات الكبرى في هذه المنطقة لن تحدث بين ليلة وضحاها، إنها بحاجة إلى متسع من الوقت وسوف يعاني المفكرون كثيرا، فالتنوير ليس بالامر السهل وهو لا محالة اجراء قاسٍ ويحتاج الى وقت، كانط مثلا كان يعتبر من رواد حركة التنوير وتوقف عن الكتابة لوقت معين لأنه كان محاطأ بمجموعة من الراديكاليين والاصوليين الذين منعوه من الكتابة عن الدين ونقد التراث الفقهي واللاهوتي، لذلك انتظر قليلأ حتى حانت الفرصة واستكمل مشروعه، فالإنسان في النهاية مرهون للظروف، والمطلوب حسب محمد اركون هو الرجوع الى عقلية العصر الذهبي للإسلام، أي القرن الرابع الهجري او العاشر الميلادي حيث كان الاسلام مصدر اشعاع للعالم كله ولم تكن هناك انسدادات فكرية وفقهية كما هو الحال في وقتنا الحاضر، لقد اُقفلَ باب الاجتهاد منذ ذلك الوقت ودخلنا عصور الظلام، الفكر هو اشعاع وسط ظلام والمفكرون يسبقون عصرهم دائما.لذلك يُنبذون من المجتمعات التي يعيشون فيها.