المرأة والقومية في جمهورية كردستان عام 1946م ( 1)

المرأة والقومية في جمهورية كردستان عام 1946م ( 1)

عمر كور نعسان

كان النضال من أجل إقامة دولة يقع في صلب تركيز الحركات القومية الكردية خلال القرن العشرين، وقد كانت التجربة الأهم والتي يمكن تمييزها عن تشكيلات الدولة قبل العصر الحديث هي الجمهورية الكردية عام 1946م التي أُنشئت في شمال شرق كردستان التي هي الآن جزء من شمال غرب إيران، حيث يمكن التمييز ليس فقط من خلال شكلها الجمهوري الذي كان يديره حزب سياسي ومجلس وزراء، ولكن أيضاً من خلال نظامه التعليمي الحديث ووسائل الإعلام الحديثة والجيش الوطني والنظام الضريبي والنشيد الوطني والعلم الوطني واللغة الوطنية، إلّا أنّ ما يميّزها بسهولة هو مشاركة المرأة في الحياة التعليمية والثقافية والسياسية.

قومية أمة بدون دولة
بعد سقوط الإمارات في منتصف القرن التاسع عشر استمرت المطالبة بدولة كردية على جدول أعمال عائلات الأمراء المعزولين، إذ دعا الملا والشاعر الذي هاجر إلى اسطنبول حاجي قادري كويي (1818-1897)م الكردَ إلى النهوض وإقامة دولة لهم كما وشجعهم على استخدام اللغة الكردية، وجمع ونشر أدبهم الشفوي والمكتوب، واكتساب العلوم العلمانية الحديثة، والسماح بتعليم الإناث، والانخراط في نشر الصحف والمجلات. لتظهر مع بداية القرن العشرين مجموعة مثقفة جديدة تلقت تعليمها في المدارس الحديثة التي أنشأتها الدولتان العثمانية والإيرانية، ففي العاصمة اسطنبول وغيرها من المراكز الحضرية الكبرى شارك هؤلاء النشطاء في النشر والعمل التنظيمي. كما شجعت حركة تركيا الفتاة في أوائل القرن العشرين وكذلك الحركات القومية والديمقراطية في أوروبا وآسيا لفكرة أمة كردية حديثة ودولة قومية. ليتوَّج النشاط بصدور أول صحيفة كردية عام 1898م وتلاها تأسيس أول تنظيم سياسي عام 1908م (انظر كلاين، هذا المجلد). إلا أنّ قيادة هذه الأنشطة كانت في أيدي الأرستقراطية المالكة.

تسببت الحرب العالمية الأولى في دمار هائل لكردستان، فقد قامت الدولة العثمانية بعد الإبادة الجماعية للشعب الأرمني عام 1915م بترحيل مئات الآلاف من الكرد إلى غرب تركيا مما أدى إلى لقاء الكثيرين حتفهم قبل وصولهم إلى وجهتهم، وأدت هزيمة الإمبراطورية في الحرب إلى تقسيم جزء كبير من أراضيها بين القوى الأوروبية وإنشاء الدولتين الجديدتين في العراق وسوريا من قبل بريطانيا وفرنسا وبالتالي تقسيم كردستان العثمانية بين الدول التي تم تشكيلها حديثاً وتركيا. وعد المنتصرون في الحرب بإقامة دولة كردية في معاهدة سيفر عام 1920م، لكن تعافي العثمانيين من الهزيمة قبل تشكيل هذه الدولة وقيام القوى – التي أعاد مصطفى كمال تنظيمها- بإنشاء سلطة فعالة فيما تبقى من الإمبراطورية (أي في أراضي تركيا الحالية) أدى إلى تغيير توازن القوى ليتم استبدال معاهدة سيفر بمعاهدة لوزان التي لم تذكر إنشاء دولة كردية، ويتم إعلان تركيا جمهورية بحلول عام 1923م التي سرعان ما بدأت في الدمج القسري للكرد في النظام العرقي القومي الناشئ.

استمر النضال الكردي من أجل السيادة تحت حكم الدول المركزية المشكلة حديثاً في سنوات ما بعد الحرب، إلّا أنّه تم قمع سلسلة من الثورات الكبرى التي حدثت بين عامي 1925م و 1942م في إيران وتركيا والعراق بشدة. قاد الزعيم الديني والإقطاعي الشيخ محمود حكومة مستقلة وصلت إلى السلطة أوائل العشرينات من القرن الماضي في ظل الاحتلال البريطاني والانتداب على العراق، وقاوم القيود التي فرضتها عليه بريطانيا وأعلن نفسه ملكاً على كردستان، لكن حكومته كانت شبيهة بالإمارات القديمة المنظمة إقطاعياً رغم وجود مجلس الوزراء والجيش المدرّب جزئياً الصحافة الحكومية ، إلا أنه لم يكن هناك حزب سياسي، وكانت السلطة بيد الشيخ محمود والطبقة النبيلة الإقطاعية المعيّنة من قبله إلى حد كبير، ولم يطرأ أي تغيير على حياة النساء والفلاحين الذين شكلوا غالبية السكان.

كان لإعادة تقسيم كردستان آثار متضاربة على تطور الكرد كأمة، فبينما كان الإقطاع والقبلية سائدين في ريف كردستان، كان المجتمع الكردي في أرمينيا السوفيتية يمر بتحول اشتراكي في منطقتهم المتمتعة بالحكم الذاتي (1923-1929)م في ناغورنو قره باخ. وبينما عرّضت تركيا وإيران الكرد لأقسى أشكال الإبادة اللغوية والعرقية، منح الانتداب البريطاني في العراق تحت إشراف عصبة الأمم الكردَ حرية استخدام لغتهم في النشر والتعليم الابتدائي. رغم أن غالبية الكرد البالغين كانوا أميين حتى وقت قريب، إلا أن أكراد الاتحاد السوفييتي أصبحوا متعلمين بالكامل بحلول الثلاثينيات. عاش الشعب الكردي منذ عام 1918م تحت حكم أنظمة سياسية متنوعة: من الانتداب الفرنسي (في سوريا: 1920-1946م) والبريطاني (في العراق: 1920-1932م) إلى الملكية العلمانية (في إيران: 1925-1979م، والعراق: 1932- 1957م)، الحكم الديني (في إيران منذ 1979م)، والأنظمة الجمهورية العلمانية القومية المتطرفة (في تركيا منذ عام 1923م، والعراق منذ عام 1963م، وسوريا منذ عام 1963م).

عندما تم إنشاء أول حكومة مستقلة من النمط الحديث وهي الجمهورية الكردية عام 1946م في إيران، كان المجتمع الكردي في الغالب ريفياً مع نظامٍ ناشئ من العلاقات الإقطاعية وتشكيلات قبلية قوية وإن كانت آخذة في التراجع، وسكان حضريون يتزايدون ببطء وباستمرار، وبرجوازية صغيرة وتجارية، ونخبة مثقفة مدنية ناشئة، إلّا أنّه لم يكن هناك أي أثر للتنمية الصناعية الحديثة وطبقة العمال إلا في صناعة النفط على أطراف كردستان في كركوك وكرمانشاه (كرماشان بالكردية). أدى تجزؤ الحركة القومية بسبب حدود الدول القومية إلى زيادة تعقيد مشروع الحركة القومية الكردية لبناء الأمة والدولة.

قيام وسقوط الجمهورية الكردية

بدا تشكيل دولة كردية في ظل الظروف الجيوستراتيجية الموضحة أعلاه مستحيلاً، لكن الحرب العالمية الثانية غيّرت توازن القوى في المنطقة وخلقت ظروفاً مواتية للحركة القومية في إيران، فبعد فترة وجيزة من هجوم ألمانيا على الاتحاد السوفييتي عام 1941م قامت قوتان متحالفتان هما بريطانيا والاتحاد السوفييتي بغزو إيران من أجل استباق الاحتلال الألماني للبلاد التي كانت تميل في عهد رضا شاه نحو ألمانيا، حيث احتلت القوات السوفيتية شمال إيران بينما سيطر البريطانيون على الجنوب ليفصلهما منطقة عازلة صغيرة.

رحب أكراد شمال كردستان (شمال شرقي كردستان-المترجم) جزئياً بوصول الجيش الأحمر لأنه أدى إلى التفكك الفوري لأجهزة السلطة لدولة رضا شاه – وهي الشرطة والجيش والدرك- مما أدى إلى ظهور الوعي القومي بين الكرد والأتراك الأذربيجانيين المجاورين مع إضعاف الدولة البهلوية، وقد كانت قوات الاحتلال السوفييتي ملتزمة باحترام سلامة أراضي الدولة الإيرانية طالما أنها احتلت البلاد أثناء الحرب، وكانت مهتمة أيضاً بالحفاظ على النظام في كردستان وأذربيجان اللتين استخدمتهما بريطانيا والولايات المتحدة كطريق لإرسال مساعدات حيوية إلى ساحات القتال من ستالينجراد إلى لينينغراد، وهكذا لم يشجع الاتحاد السوفييتي القومية الكردية أو الأذربيجانية خاصة من عام 1941م إلى عام 1945م، إلّا أنّ القوميتان الكردية والأذربيجانية شهدتا نهضةً رغم هذه القيود.
كانت الولايات المتحدة حتى قبل نهاية الحرب تساعد شاه إيران الجديد في بناء الجيش والدرك، وكان الناس في جميع أنحاء إيران يناضلون من أجل الديمقراطية والاستقلال عن الهيمنة البريطانية والأمريكية المتزايدة. أدّت مطالبة شركات النفط الأمريكية الحكومة الإيرانية بامتيازات نفطية في شمال إيران بالقرب من حقول النفط في باكو إلى اعتبار الاتحاد السوفييتي ذلك بمثابة خطة أمريكية لإنشاء قواعد مراقبة على حدود جمهورياته القوقازية.
على الرغم من اهتمامها بهزيمة ألمانيا إلا أنّ القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة شعرت بالقلق من انتصارات الاتحاد السوفييتي ونجاحات الأحزاب الشيوعية في اليونان وألبانيا ويوغوسلافيا والصين وأجزاء أخرى من العالم، وقد عززت هذه الانتصارات الحركات الاشتراكية والتحرر الوطني في إيران ودول آسيوية أخرى. في ظل الظروف السياسية المتغيرة للعام الأخير من الحرب كانت القوى الغربية تحاول منع تصاعد الحركات المناهضة للاستعمار، واعتبرت الولايات المتحدة إيران وتركيا واليونان مناطق استراتيجية رئيسية لتأسيس قواعدها ضد الاتحاد السوفييتي واحتواء الحركات الشيوعية في البلقان وغرب آسيا، لتظهر صراعات أخرى بعضها قديم وبعضها الآخر جديد بين الاتحاد السوفييتي والقوى الغربية في أوروبا وآسيا مع انتهاء الحرب في عام 1945م.
رفض الاتحاد السوفييتي في ظل هذه الظروف سحب قواته من شمال إيران بعد انتهاء الحرب وشجعت موسكو علاوة على ذلك القوميين في أذربيجان وكردستان على تشكيل حكوماتهم ذاتية الحكم في إطار الدستور الإيراني، لتتأسس “الحكومة الوطنية لأذربيجان” في كانون الأول عام 1945م ويتم إعلان “جمهورية كردستان” في مهاباد في 22 كانون الثاني عام 1945م. أصبح نظاما الحكم الذاتي موقعاً للصراع بين الغرب (بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا) والملكية الإيرانية واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، والكرد والأذربيجانيين. تبنّت إيران بمساعدة الغرب حالة الرفض السوفييتي للجوء إلى الأمم المتحدة المشكلة حديثاً، ليهاجم الجيش الإيراني الحكومتين بعد ستة أشهر من انسحاب آخر الوحدات السوفيتية من إيران في أيار 1946م زاعماً أنها كانت عملية الحفاظ على القانون والنظام لأجل انتخابات البرلمان الإيراني المقبل، ولم يقاوم نظاما الحكم الذاتي مقتنعَين بالاتحاد السوفييتي مما أدى إلى سقوطهما من خلال العمليات العسكرية في كانون الأول عام 1946م وإلى إعدام مئات القادة والمشاركين في الحركة.