كُرة القدم والعِشق الأبدي
محمد رجب رشيد
تعود بدايات لعبة كرة القدم إلى القرن التاسع عشر في انكلترا، حيث كانت تُلعب في المدارس والجامعات قبل ولادة الأندية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وُضِع قانون اللعبة سنة ١٨٦٣م، ثم تطوّر بإجراء التعديلات عليه حتى أصبح كما هو عليه الآن. بعد انتشار اللعبة في معظم أنحاء العالم أُنشِأ الإتحاد الدولي لكرة القدم في باريس سنة ١٩٠٤م، اختصاره فيفا (ويعني باللغة الإنكليزية الهيئة المنظِّمة للعبة كرة القدم في العالم)، مُتّخذاً مدينة زيوريخ السويسرية مقراً له. يبلغ أعضاء الفيفا حالياً ٢١١ عضواً، يمثِّلون اتحادات كرة القدم المحلية في دول العالم. يُشرِف الفيفا على جميع أنشطة كرة القدم في العالم بالإضافة إلى تنظيم البطولات الدولية، ومراقبة البطولات القارية، وتطوير كرة القدم ودعمها في جميع أنحاء العالم. يضم الفيفا محكمة مهمتها الفصل في القضايا الخلافية التي تحدث أحياناً بين المنتخبات أو بين الأندية، أو بين المدربين والأندية، أو ما شابه. وللعلم فإنّ ميزانية الفيفا تفوق ميزانية بعض الدول!
حقّاً كُرة القدم لم تعُد مجرّد لعبة رياضية كبقية الألعاب، بل أصبحت عِشقاً وصناعةً وتجارةً وفناً بالإضافة إلى كونها رياضةً. هي العِشق الأبدي، هذا إن لم تكن جنوناً للملايين في كافة أنحاء العالم بغض النظر عن لون بَشَرتهم وقوميتهم وعقيدتهم.
وهي صناعة من نوع خاص لإعداد وصناعة اللاعبين في أكاديميات الأندية الرياضية العريقة التي تستقطب الأطفال الصِغار، وتقوم على تدريبهم ورعايتهم والاهتمام بهم إلى سِن السادسة عشرة، يتم بعدها فرز الموهوبين منهم لِبيعهم بملايين الدولارات أو الاحتفاظ بهم لأنديتهم. أمّا كتجارة فهي تَدُرُّ على الأندية ملايين الدولارات من خلال بيع تذاكر مشاهدة المباريات في الملاعب -على سبيل المثال مباراة الكلاسيكو بين ريال مدريد و برشلونة يصل ريعها إلى عشرة ملايين دولار-، بالإضافة إلى حقوق البث عبر قنوات التلفزة، هذا فضلاً عن الإعلانات التجارية على قمصان اللاعبين وأرضية الملاعب وظهور النجوم في الإعلانات التجارية للماركات الشهيرة على وسائل الإعلام. والأهم من كل ما سبق هو سوق بيع وإعارة وانتقال اللاعبين بين الأندية مقابل عقود خيالية قد تصل إلى مئات الملايين من الدولارات.
فنياً تقوم كرة القدم على أربعة ركائز أساسية هي: اللياقة البدنية، التكنيك (التحكُّم بالكرة)، التكتيك، التحكيم. الركيزتان الأولى والثانية تخصّان باعتباره محور كرة القدم، ويتميز أي لاعب عن الآخر بالموهبة وسِعة الخيال الكروي واللياقة البدنية، يدفعه عِشقه للكرة وإخلاصه للقميص الذي يرتديه وحلمه بالفوز لبذل أقصى طاقته وتقديم أفضل ما لديه. الركيزة الثالثة هي المدرب، ويُعتبر العقل المدبّر للفريق، يعود إليه شرف الفوز بالدرجة الأولى رغم أنّه لا يلعب ولا يسجل الأهداف، وبنفس الوقت تقع عليه مسؤولية الخسارة. لذلك نجد الأندية تتنافس على التعاقد مع ذوي الخُبرة منهم مقابل مبالغ خيالية، وبنفس الوقت يتم الاستغناء عنهم في حال الفشل في تطوير الفريق أو إحراز الألقاب. تنحصر مهمة المدرب في دراسة أسلوب لعب الفريق الخصم ومعرفة نقاط ضعفه وقوته لمراقبة المهاجم الأخطر فيه، ثم وضع التشكيلة المناسبة لفريقه وتحديد أسلوب اللعب -هجومي، دفاعي-، وتبديل لاعب بآخر أثناء المبارة إذا لُزِم الأمر. أمّا التحكيم -الركيزة الرابعة- فإنّه يعود إلى الجهة المنظِّمة للبطولة، وعليه يتوقّف نجاح المباراة أو عدمه.
الكُرة مدوّرة، لا كبير دائم في عالم كرة القدم. هكذا كان يقول المرحوم عدنان بوظو. نعم الكرة مدوّرة، والدائرة ليس لها رأس مُحدّد أو زيل، كل نقطة على محيطها بمثابة الرأس أو الذيل، بمعنى ليس هناك فائز دائم وخاسر دائم في عالم كرة القدم، كل مباراة بحد ذاتها بطولة لها ظروفها وخصوصيتها. ولعلّ أجمل ما في كرة القدم المفاجآت والغرائب بالإضافة إلى الروح الرياضية التي تتمثّل في تقبُّل الخسارة، وتهنئة الخاسر للفائز بنهاية المباراة، واعتذار مرتكب الخطأ العنيف من اللاعب المصاب بالطبطبة على ظهره. لنأتي الآن على ذكر بعض المفاجآت والغرائب في عالم كرة القدم. في النسخة رقم ١٢ لبطولة أمم أوربا التي أُقيمت في البرتغال لأول مرة خرجت منتخبات ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا من الدور الأول للبطولة، والمفاجأة هنا كانت منتخب اليونان المتأهّل إلى النهائيات لأول مرة، حيث فاز في مباراة افتتاح البطولة على منتخب البرتغال المستضيف بهدفين مقابل هدف، ثمّ فاز في دور الربع نهائي على حامل اللقب منتخب فرنسا بهدف مقابل لا شيء، وفي النصف نهائي فاز على منتخب التشيك بهدف مقابل صفر، وتابع تألّقه بفوزه مرة أخرى على منتخب البرتغال في المباراة النهائية بهدف مقابل لاشيء محرزاً بذلك اللقب لأول مرة. وشهِدت بطولات كأس العالم لكرة القدم خروج حامل اللقب السابق من الدور الأول منذ بطولة عام ٢٠٠٢م التي شهِدت خروج فرنسا حاملة اللقب من الدور الأول، وكذلك الأمر بالنسبة لإيطاليا في ٢٠١٠م. وإسبانيا في ٢٠١٤م، وألمانيا في ٢٠١٨م، والاستثناء هنا كان منتخب البرازيل الذي تجاوز الدور الأول وأحرز اللقب في بطولة ٢٠٠٢م.
من أهم المشاكل التي كانت تعاني منها كرة القدم إلى أمدٍ قريب قبل اعتماد تقنية VAR هي أخطاء الحكام التي كانت تؤثر أحياناً في نتائج المباريات والبطولات، فالحكم ليس آلة تعمل وِفق برنامج محدّد مسبقاً، هو بالنهاية إنسان معرض للخطأ، عليه اتخاذ القرارات خلال جزء من الثانية، وقراره نهائي ومُلزم ولا يناقش أثناء المباراة بغض النظر عن صحتها أو عدمها. لقد كان لأخطاء الحكام فيما مضى دوراً ما في فوز بعض الفرق بالبطولات الكبرى أو خسارتها. على سبيل المثال وليس الحصر أحرزت انكلترا اللقب بفوزها على ألمانيا في المباراة النهائية لبطولة كأس العالم سنة ١٩٦٦م بهدف غير صحيح لم تتجاوز الكرة خط المرمى. وفي بطولة ١٩٨٦م سجل الساحِر مارادونا في غفلة عن الحكم هدفاً بيده في مرمى انكلترا أدّت إلى خسارتها المباراة وخروجها من دور الثمانية للبطولة، بينما استمرت الأرجنتين بفضل هذا الهدف، وأحرزت اللقب بفوزه على ألمانيا في المباراة النهائية. وانقلب السِحر على الساحِر مارادونا في البطولة التالية ١٩٩٠م، حين أحرزت ألمانيا اللقب بفوزها على الأرجنتين في المباراة النهائية بهدف وحيد من ضربة جزاء غير صحيحة. من هنا تأتي أهمية تقنية VAR في إلغاء دور أخطاء الحكام في نتائج المباريات، وبالفعل اختفت أخطاء التحكيم تماماً مع تطبيقها، وهي بإختصار تقنية إعادة أي حالة مشكوك بصحتها أثناء المباراة مباشرة، واعتماد الصحيح منها فقط.
تبقى لعبة كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى على مستوى العالم، رغم أنّها من أقلِّ الألعاب الجماعية تسجيلاً للأهداف، وأحياناً تنتهي المباراة دون أهداف، رغم ذلك ترى الجمهور في حالة هِيام وسُكر، ينسى العالم أثناء مشاهدة المباراة في الملعب أو من خلال التلفاز. إنّها كرة القدم وليست لعبة القدر!