أبواق الأمم في سوريا
دوران ملكي
سقط نظام الأسد ولم ينتهِ السؤال حول آلية السقوط، حيث يوجد الكثير من الملفات المرتبطة بها. كيف استطاعت الحلقة الأضعف سياسيًا في المعارضة أن تستحوذ على مقاليد الحكم وهي الخارجة من رحم الإرهاب؟ ولم يُحسب لها حساب في مستقبل سوريا. كيف تمكنت من تبديل لونها كالحرباء، وطرد المعارضين الحقيقيين وشباب الثورة خارج الحلبة، مُحطمة بذلك الرقم القياسي في تشويش عقول المحللين السياسيين؟ إلى متى ستتمكن من التأقلم مع طباعها الجديدة ومسايرة الجميع بطبيعة براغماتية خارقة؟
أحمد الشرع، مع الغرب، يتظاهر بالعلمانية والديمقراطية، ومع العرب عروبياً بدون منازع. يلبس الربطة الحمراء في تركيا، والخضراء في المملكة العربية السعودية، وربما السوداء في إيران. يرفع الراية البيضاء مع إسرائيل، وينافس كارل ماركس في حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. هل هو خارق لهذه الدرجة؟ ولديه دواء لكل داء؟ أم هو دمية صناعية من إنتاج الذكاء الاصطناعي يراد منها اللعب بعقول الناس وتخديرهم لسنوات قادمة؟ أم يريد تقديم نفسه كسلطة أمر واقع، ليلهي الناس حتى تمضي الأيام، ثم يتجذر في أرض الواقع، ليبني نظامه الأمني الكينوني ويقدم نفسه كمرشح للرئاسة ليفوز بنسبة 99.999% من أصوات الناخبين، ثم يبدأ المرحلة الحقيقية والفكرية والأيديولوجية؟
تدافعت الوفود أفواجا للاعتراف بالرئيس أحمد الشرع، وتبلغه في الوقت ذاته بما يجب عليه فعله في المستقبل. الجميع يرى أنه يجب أن يأخذ الوقت الكافي، ثم يتم الحكم عليه.
يعتقد الغالبية أن الخاسرين الأساسيين هما روسيا وإيران، لأنهما ضحّتا بالغالي والنفيس لكي يبقى نظام بشار الأسد قائما، وأسستا لاستثمارات طويلة الأجل. وبالفعل، استطاعا في بداية الثورة السورية إنقاذ نظام بشار الأسد. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا لم يفعلوا الشيء ذاته قبل السقوط؟ لماذا انسحبت إيران من سوريا تحت جنح الظلام؟ ولماذا لم يتحرك الطيران الروسي والطائرات المسيرة الإيرانية والصواريخ الباليستية؟ أين السلاح السوري الذي كان يخزنه الأب والابن لمواجهة إسرائيل كما كانت تدعي؟ وأين المطارات التي كانت تعج بالطائرات؟ هل كان السلاح السوري هو هذه الخردة التي رأيناها إبان السقوط؟
أغلب الظن أن السلاح تم نقله إلى روسيا عن طريق القواعد الروسية، والخفيف والمتوسط إلى حزب الله، ربما استعدادًا لمرحلة ثانية.
تيقن النظامان الروسي والإيراني أن الرهان على بشار الأسد أصبح خاسرا، ولا بد من تغييره لأنه لم يتطور وأصبح عبئًا ثقيلًا. فلم يأخذ برأي الروس في المصالحة والاتفاق مع تركيا، ولا برأي الإيرانيين بسبب إصابته بالذعر من تسارع سقوط أذرع إيران في المنطقة، وفقد توازنه، واتخذ قرار تنحيه بالتشاور معهم. وتم اختيار هيئة تحرير الشام كبديل له بدلًا من المعارضات الأخرى، لأن هيئة تحرير الشام، التي هي على قوائم الإرهاب، لا تستطيع إيجاد الاستقرار في سوريا. وهي الأنسب للأجندات المستقبلية. وبذلك، استطاع النظامان كسر تسارع التوتر في الشرق الأوسط، ووقف إسرائيل في حدودها الدولية، وحماية الميليشيات الشيعية في العراق، وإمكانية تشكيل حكومة منفى في روسيا. وبذلك، يتم نزع الشرعية عن الحكومة الحالية، والوضع في انتظار ما سوف يقدمه الرئيس الأمريكي الجديد لروسيا في الساحة الأوكرانية.
بدأت المناوشات بالفعل على الحدود اللبنانية في محافظة حمص بين قوات الحكومة الانتقالية وفلول النظام السابق. وما تم إنجازه في سوريا على أرض الواقع حتى الآن هو حكم الوسط السني، بينما باقي الأطراف خارج السيطرة.
تركيا حاولت الركوب على موجة الأحداث وكأنها كانت وراء الانتصارات الوهمية المتسارعة التي أدت إلى سقوط نظام بشار الأسد. وسارعت للاعتراف بالقيادة الجديدة، وأرغمت المعارضة الموالية لها على تقديم ولاء الطاعة للقائد الجديد دون المساس بالفصائل المسلحة التابعة لها والتي تشرف عليها، واستخدمتها ضد قوات سوريا الديمقراطية في شمال حلب ومنبج لكي تحصل الفصائل على أكبر مساحة ممكنة، وتضغط لصالح تركيا، وتجبرها على بقاء القوات التركية وترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسوريا للحصول على بعض حقول الغاز والنفط في البحر المتوسط. وبالتالي، يثبت للداخل التركي أن الرئيس أردوغان كان على حق عندما تدخل في الشأن السوري، في وقت كانت المعارضة تنتقده بشدة. كما يهدف لتدمير قوات سوريا الديمقراطية.
إلا أن هذا اصطدم بموقف الولايات المتحدة الأمريكية الباهت من الوضع السوري، وكأن الشأن السوري لا يعنيها. ولم تصرح لا من قريب ولا من بعيد حول استراتيجيتها في سوريا، ولم تعطي الضوء الأخضر لتركيا لغزو المناطق الكردية في شرق الفرات. بل حافظت على هيكلية قواتها وعززتها بالعتاد. وإذا استمر الحال هكذا في إطار حرب المناوشات، ولم تتحول إلى حرب شاملة، سوف يصيب الفصائل الملل، وستتوجه إلى الداخل السوري طمعًا في المكاسب المستقبلية، ويتحول ولاؤها إلى الحكومة الجديدة بدلاً من تركيا.
يحاول نظام أحمد الشرع الحصول على الشرعية بشتى الوسائل، ورفع العقوبات على سوريا عن طريق الدول العربية الفاعلة في السياسة الدولية، كالمملكة العربية السعودية، التي كانت وجهته الخارجية الأولى. ويبدو أن هذه سياسة جديدة للتنظيمات الجهادية المرتبطة بالقاعدة، والاستفادة من تجربة حكومة طالبان التي غيرت تكتيكاتها الجهادية الكلاسيكية من المواجهة المباشرة مع أمريكا والغرب إلى أسلوب أكثر حضاريًا حتى تتمكن من السيطرة وتأسيس دول عقائدية. وإلا، كيف استطاع أحمد الشرع إقناع أنصاره من غير العرب بسياساته؟
من غير المتوقع أن تبذل السلطة الجديدة الكثير من الجهد لإخضاع جميع الطوائف والقوميات في سوريا، بل ستعمل على تقوية وجودها في المناطق السنية وتصبح سندًا لسنة العراق في مواجهة الشيعة. ولذلك كانت وجهته بعد دمشق هي دير الزور والحدود العراقية السورية لحماية نفوذه من إيران أولًا، وللتواصل مع سنة العراق. وسوف يستمر في التفاوض مع باقي المكونات في الداخل، وإن طال الزمن.
السياسة لا تنتظر مشيئة القدر، وإنما لكل شيء أوانه. فالولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية تراقب عن كثب ولا تتدخل بشكل مباشر طالما تجري المياه لمستقرها، ولم تعترض على أحمد الشرع كما كان متوقعًا، والذي نعتوه بالإرهاب، لأنه الأداة لتشكيل الشرق الأوسط الكبير مع بعض التحكم حتى لا يفقد بوصلة اتجاهها الصحيح.
كثيرون يراهنون على خروج القوات الأمريكية ومعها قوات التحالف الدولي من سوريا والعراق، وخاصة تركيا، اعتمادًا على تصريحات الرئيس ترامب في فترة رئاسته الماضية وعلاقته الجيدة مع الرئيس التركي رجب أردوغان. تركيا تجهز نفسها منذ الآن كبديل استراتيجي لحكم المنطقة. فهل يعقل أن الرئيس ترامب سوف يتخلى عن نفط كردستان الغربية والجنوبية، ومصادر الغذاء والثروات المعدنية، ويترك سجون ومخيمات داعش لمشيئة القدر؟ وهل تقبل إيران بالسيطرة التركية على سوريا بعد خروج القوات الأمريكية؟ وهل تقبل قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني، ذات الطبيعة الميكافيلية والبراغماتية، أن تكون مصيرها الزوال؟ أم ستسعى للبحث عن إله جديد تلتقي مصالحهما؟ وهذا البديل هو إيران، الحليف الاستراتيجي لحزب العمال الكردستاني، والتي سوف تدعم قوات سوريا الديمقراطية عن طريق ميليشيات الحشد في جبال سنجار المتاخمة لقوات سوريا الديمقراطية. وبذلك تحصل إيران على موطئ قدمٍ طالما حلمت به، وبذلك تستطيع التحكم بالوضع السوري حتى إذا خسرت الحدود السورية العراقية غرب نهر الفرات. فأي هراء هذا الذي يدعي بخروج قوات التحالف؟ إن بقاءها هو من صلب استراتيجيات الإدارة الأمريكية.