يوميات الحصار.. أمام الفرن
صبري رسول
الأصعب في الحياة والأخف من الموت هو الجوع الذي يفتك بالمرء حتى الغثيان. بدأت مادة الخبز تغيب كثيراً، وأصبحت مفقودة، وصارت أزمة خانقة، حيث يقضي المرء ساعاتٍ طويلة أمام الأفران مع مئات الناس دون أن يحصل على كسرة خبز. إنّها إحدى وسائل محاربة الناس وتطويعهم إلى سقف الاستكانة والذل.
وصلتُ أمام الفرن في الساعة الثالثة والنصف ليلاً، أو لنقل فجراً، هناك طابوران (رتلان) من الرجال، أحدهم من فئة مَنْ يريد الحصول على الخبز بعشرين ليرة، كان عددُ هذا الطابور اثني عشر رجلاً، والآخر من فئة خمسين ليرة، وعددُهم يزيد عن خمسين رجلاً. وجدتُ الرتل الأول أقصر لأرجع مبكراً حيث لدي دوام صباحي في السابعة والربع. وفي الجانب الآخر هناك طابوران للنساء اللواتي يفتحنَ مجالس طويلة يتناقلن الأخبار من كل حدب وصوب. كلّ منهن تأتي بأخبار جديدة حصلت في حارتها. الاستيقاظ من النوم في هذا الوقت أمرٌ في غاية الألم، يخلق شعوراً لدى المرء بالدونية. التعامل مع الإنسان بهذا الأسلوب الرديء يشبه مرحلة الرّق في العصور الغابرة. والذي لايصل إلى الفرن في الساعة المطلوبة لن يحصل على خبزه اليومي رغم رداءة الخبز إلى درجة كبيرة.
انتظرنا ساعة ونصف قبل أن يبدأ الفرن بالعمل. هذا الانتظار الطويل لحجز المكان ضمن الطابور. عندما بدأ العمل، كان ضجيج النساء يشبه خلية نحل، ولا أفهم منهن شيئاً. عشرات النّساء يقفن في طابور طويل لاستحواذ بضع أرغفة خبز. أحياناً يأتي شخصٌ ما، فيدخل الفرن والناس ينظرون إليه بحسرة، وبعد قليل يخرجُ حاملاً (ربطة) ضخمة من الخبز، تفوح رائحته الساخنة متسللة إلى أنوفنا. الخبز أنفاس الجوع.
استمرّ الرتل بالاضمحلال لكن ببطءٍ شديد. اقتربنا من الكوّة بعد ساعتين من الانتظار في البرد القارس، يفصلني عنها رجلان، فخرج أحد العاملين بجعير هائل معلناً: لم يبقَ الخبز يا ناس. فبدأ الضجيج، وهاج الناس. صاح أحدهم: أنكم لم توزّعوا غير 200 كلغ، أين الباقي؟؟ ردّ أحدهم: إنهم يبيعون نصف حصتهم من الدقيق، الكيس بـ(2500ل.س. 20 دولاراً) كان سعر الكيس قبل الحصار بـ300ل.س أي 6دولارات) يعني خمسة أكياس بـ(12500 ل.س). بعد معركة كلامية من دون فائدة رجعنا نجرُّ أذيال الخيبة. مئات الناس رجعوا خائبين. فالمعارك هذه تأتي بما لا تحسب عقباها. كانت الساعة تشير إلى قرب موعد الدوام. فأسرعتُ إلى موعد الدوام، والبيت الكبير اشتاق إلى رائحة الخبز أكثر مني.
*من مجموعة "يوميات الحصار" قيد الطباعة.