الضرورة الملُحة للتدوين والتوثيق
علي جزيري
(في الجزء الكُردستاني الملحق بسوريا)
تدوين الأحداث التاريخية وتوثيقها، يُدْرجان كخطوة أولية في إعداد الأبحاث العلمية، لأن أهميتها البالغة تتأتّى في إضفاء المصداقية على الدراسات المنشورة، بخلاف تلك التي تنشر بشكل شفاهي لأنها تفتقر إلى الدقة.
ينبغي القول إن الكُرد في العهود الإسلامية كانوا يدوّنون، ويوثّقون بلغات الأمم المهيمنة من ترك وفرس وعرب، وفي ظل ايديولوجياتها المضللة التي صمّمت صهرَهم في بوتقاتها. واليوم ثمة محاولات جادة هنا وهناك، نودُّ الإشارة لأنموذجين متميزين على سبيل المثال لا الحصر: الأول: يتمثل في إقدام الملا أحمد نامي في تدوين وتوثيق مأساة الحريق الذي نشب في سينما شهرزاد ببلدة عامودا والذي راح ضحيته ٢٨٣ تلميذاً بتاريخ /١١/١٣ 1960. يقول الأديب والشاعر أحمد نامي: كنتُ في القامشلي حين وقوع تلك الفاجعة، فيممتُ شطر عامودا، وحين التقيت بشاب من شبابها، ألحّ عليّ بتدوين الحدث، وحين عدتُ إلى البيت صممتُ أن أوثق الحدث بالكُردية كما أراد كيلا أخيب أمله، ويلاحقني ذنب يؤنبني أمام التاريخ.
حري بالقول إن السلطات السورية كانت تقوم في تلك الفترة بجمع التبرُّعات من عامة الناس، وشملت تلاميذ المدارس أيضاً، بأمر من مدير الناحية، وتم عرض فيلم «ذنب منتصف الليل» مرات عدة يومها، بيد أن السلطة حتى اللحظة لم تفصح عن السبب الذي أدّى إلى نشوب الحريق والتهام معظم من حُشروا في دار السينما الشبيه بالكوخ، والمهم في الأمر أن ننوّه أن ريعية الفيلم كانت تُرسل إلى الجزائر التي كانت تناضل من أجل نيل الاستقلال، لكن حكومة الجزائر في السبعينيات طعنت الكُرد من الخلف، وكانت لها ضلع في القضاء على ثورة أيلول. في كُردستان العراق عام ١٩٧٥.
الثاني: ونعني به البحث الموثق (الحزام العربي في الجزيرة) الذي أنجزه الراحل عبدالصمد داوود تحت اسم (برزان مجيدو) المستعار، في طبعته الأولى عام 2003 والثانية باسمه الحقيقي عام 2015 ، والطبعتان كانتا بالعربية. ويتناول البحث اجتماع القيادة القطرية لحزب البعث برئاسة الأمين القطري المساعد محمد جابر بجبوج، وعبدالله الأحمد عضو القيادة القطرية مهندسا الحزام العربي، وأصدر القرار المشؤوم تحت رقم ٥٢١ بتاريخ 24/ 6/ ١٩٧4، وكلف محافظ الحسكة إسماعيل عقلة بتنفيذه، ثم بدأ المستوطنون العرب بالتوافد تباعاً من محافظتي الرقة وحلب، كمشروع للفصل العنصري، بهدف فصل كُرد الجزيرة عن إخوتهم في شمال كُردستان وجنوبها، وأقيمت أكثر من ٤٠ مستوطنة على طول الشريط الحدودي التركي بطول ٢٧٥ كم وبعمق ١٥ كم عام 1974، وبلغت المساحات الزراعية المسلوبة من الفلاحين الكُرد ٣ مليون دونم، وأسكنوا فيها ٤ آلاف عائلة عربية في خطوة استباقية جوهرها عبارة عن إحداث التغيير الديموغرافي (التعريب) في المناطق الكُردية، وكانت مواقف الأحزاب السياسية آنذاك خجولة باستثناء الحزبين الكُرديين الپارتي واليساري، اللذين أصدرا بياناً ونداءً منددان عام 1973، فأعتقل ٧ من الأول و ٢ من الثاني، وأمضى الكثيرون منهم قرابة ٨ سنوات في المعتقلات.
ما من شك أننا ندينُ بالكثير لأحمد نامي وعبدالصمد داوود بما تركاه لنا من إرث، رغم ظروف القهر والمخاطر التي أنجز البحثان في ظلالها، ونأمل أن يحذو اليوم أصحاب الاختصاص والكفاءات حذوهما.