كفى كتابة روايات يا سيد أندريه!!

كفى كتابة روايات يا سيد أندريه!!

صالح محمود

لقد روى الأديب الفرنسي أندريه موروا قصة في مذكراته حيث قال:
"في يوم من أيام 1935 كنت أتناول الغداء في لندن عند الليدي لسلي مع ونستون تشرشل وهو ابن أخت صاحبة الدعوة، وبعد الغداء أخذ بذراعي وانتحى بي في صالون صغير وقال لي فجأة ":
والآن ياسيد أندريه كفى كتابة روايات، وكفى كتابة تاريخ أشخاص، كفى !!، فنظرت إليه بشيء من القلق ولكنه مضى يقول:
لم يعد يجوز لك أن تكتب إلا مقالاً واحداً في اليوم ...مقالاً واحداً تكرره كل يوم ... مقالاً تقول بكل الأساليب التي يمكن لخيالك ابتكارها ...تقول شيئاً واحداً هو إن الطيران الفرنسي الذي كان الأول في العالم يتقهقر الآن إلى الدرجة الرابعة أو الخامسة ،وإن الطيران الألماني الذي لاوجود له يتقدم الآن إلى الدرجة الأولى من طيران العالم ...هذا هو واجبك ،ولا شيء سواه ... فإذا صحْتَ بهذه الحقائق في فرنسا ،وإذا أصغَتْ إليك فرنسا فإنك تكون قد أدّيت عملاً أعظم شأناً وأجّل أثراً من وصف غراميات امرأة ، أو مطامع رجل " فأجبته بأنني لست لسوء الحظ خبيراً في شؤون الطيران، وأنه ما من أحد سيستمع إلي إذا فعلت ذلك ،وأنني على رغم نصائحه ،سأمضي في كتابة قصصي عن الرجال والنساء "٠
فقال لي تشرشل بصوته القوي الساخر:
ستكون مخطئاً ياسيد موروا ... فإن الخطر الذي سيتمخض عن الطيران الألماني هو الشيء الوحيد الذي يجب أن يهم أي فرنسي ...فقد يكون من ورائه مصرع ودمار بلادكم ...أما الثقافة والأدب فلا بأس بهما ياسيد موروا ! بيد أن الثقافة بغير القوة لا تلبث أن تكون ثقافة ميتة، لا حياة فيها "
لم يأبه موروا للظروف التي كانت تمر بها أمته في حينه، وحتى عندما نبهه تشرشل لم يستوعب ولم يستجب.
فبعد القرارات التي أصدرتها أو تصدرها المحكمة الاتحادية بات من الضروري ومن الواجب أن تضع النخبة المثقفة من الكورد الغيورين- أينما كانوا- نصب أعينها على خطورة مثل هذه القرارات، وما قد تسببه من الضرر والأذى للشعب الكردي، وأن تكون هذه المحكمة وقرارتها الشغل الشاغل لها، فالمحكمة الاتحادية التي أسسها مجلس الوزراء العراقي عام ٢٠٠٧ و التي تتألف من مجموعة قضاة مهمتهم حماية الدستور والفصل في الخصومات السياسية وفضّ النزاعات الطائفية والدينية التي تتعرض لها العراق أصبحت الآن أداة بيد الإيرانيين، وأصبحت فيما يشبه ولاية فقيه، ولكن بنسختها العراقية، وقد أخذت هذه المحكمة على عاتقها حالياً دور الرقيب والمرشد والموجه غير الحيادي ،وبالتالي قراراتها الأخيرة هي تجني واضح على إقليم كوردستان بالدرجة الأولى، وعلى الحزب الديمقراطي الكوردستاني بالدرجة الثانية من خلال التخلي أو الخرق الواضح لبنود الدستور العراقي، فمجموعة الأحكام التي صدرت عن المحكمة تشي بوجود مؤامرة كبرى على الإقليم الكردي وعلى الحزب الديمقراطي الكوردستاني بشكل خاص، وقد تجلى ذلك عبر تكليف المحكمة الاتحادية للمفوضية العامة للانتخابات في العراق بإجراء الانتخابات في إقليم كوردستان بدلاً عن مفوضية كوردستان للانتخابات التي تعمل منذ عام 2006 وقد أعلنت مفوضية الانتخابات هذه إغلاق باب تسجيل الكيانات والتحالفات في إقليم كوردستان، وأعلنت عن مشاركة 10 أحزاب وتحالفين فضلاً عن 45 مرشحاً مستقلاً، ولم يكن من بينها "الحزب الديمقراطي" وقوى الأقليات، على رغم تمديد مفوضية الانتخابات موعد التقديم لمرتين.
لقد دخلت أزمة الانتخابات البرلمانية في إقليم كوردستان منعطفاً جديداً مع تمسك "الحزب الديمقراطي الكوردستاني" بزعامة مسعود البارزاني الذي يقود الحكومة الائتلافية بقرار المقاطعة، واضعاً الإقليم الكردي أمام سيناريوهات عدة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى اعتبار المحكمة الاتحادية عدم مشروعية قانون النفط والغاز التي تعمل به كوردستان وعدم السماح لحكومة كوردستان ببيع النفط أمر في غاية الخطورة ويضاف إلى ذلك صدور قرارات عديدة من المحكمة الاتحادية تهدف إلى انتزاع السلطة المالية من يد حكومة الإقليم من خلال إصدار قرار بربط رواتب الموظفين بشبكة تشرف عليها وتديرها الحكومة الاتحادية ببغداد بمعنى توطين الرواتب وإعفاء حكومة الإقليم من مهمة صرف وتوزيع الرواتب وهذه تعد محاولة أخرى لتحجيم سلطة الإقليم وإفراغها من مضمونها وبالتالي إنهاء الإقليم وبالرغم من ظهور انفراج عقب اتفاق بين محمد شياع السوداني ورئيس إقليم كوردستان نيجيرفان البارزاني على موضوع إرسال مستحقات الموظفين وتأجيل الانتخابات إلى تشرين الأول القادم وأن تكون بإشراف ٍمن الأمم المتحدة، وأن تكون هولير هي مركز القرار وليس بغداد والسماح لكوردستان بالبدء بتصدير النفط عبر تركيا وقد جاءت هذه الأمور كثمرة لزيارة دولة الرئيس مسرور البارزاني إلى واشنطن في الآونة الأخيرة .
إلا إن قرارات المحكمة الاتحادية تلوح في الأفق بين الفينة والأخرى وتشكل مصدر قلق لكوردستان، ومنها إلغاء كوتا الأقليات الموجودة في كوردستان والتي تبلغ 11مقعداً وتقليص البرلمان الكردي من 111 إلى 100عضو... أليس هذا تقزيماً واختزالاً للعملية الديمقراطية؟! ولابد من إعادة النظر في هذه المسألة إن قرارات المحكمة الاتحادية المجحفة بحق كوردستان تبدو وكأنها انتقام أو اقتصاص من عدو، وهذه القرارات تعتبر هجمة سياسية وقضائية على الشعب الكردي ووجوده، وهي تجن واضح على إرادة شعب ومحاولة لتجريده من حقوق ومكاسب سياسية حصل عليها سابقاً، وهذه الإجراءات هي على درجة عالية من الخطورة .
لقد تعرضت كوردستان لهجمة عسكرية من قبل قوات الحشد الشعبي عام 2017 وخسرت سلطة الإقليم على إثرها مساحات واسعة من أراضي كانت تسيطر عليها، ولولا إرادة وشجاعة البيشمركة المغاوير لما توقف زحف هذه القوات الغازية حتى تصل إلى أربيل، والآن كوردستان العراق تتعرض لهجمة من نوع آخر ومن نوع مختلف وأكثر خطورة من سابقتها على وجود إقليم كوردستان من خلال المحاولات المتكررة من المحكمة الاتحادية لسحب البساط من تحت أرجل الحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي يقود ائتلاف حكومة الإقليم والقابض الأول على المشروع القومي الكردي، ولكن هيهات ثم هيهات .
إجراءات المحكمة الاتحادية هي تلبية لرغبة خارجية يمثلها نظام الملالي في إيران والذي يصعب عليه القبول بوجود كيان كردي إلى جواره ولكن الكورد اعتادوا على التضحية بشكل دائم وقد دفعوا -فيما مضى- ضريبة إيزيديتهم والآن يدفعون ثمن سنيّتهم وإسلامهم الصحيح بالإضافة إلى ضريبة الكوردايتي القائمة بشكل دائم. ومسألة مداومة وإصرار المحكمة على إصدار قرارات تستهدف سلطة الإقليم هو أمر في غاية الخطورة وهو فتح باب التحدي والصراع مع أكبر مكون سياسي كردي في إقليم كوردستان وصاحب أكبر كتلة برلمانية في البرلمان الكردي وهذا ينذر بمخاطر كبيرة على العملية السياسية في العراق عموماً وعلى مستقبله الفيدرالي .