دعوة لإحياء العقل بالفلسفة

دعوة لإحياء العقل بالفلسفة

هنر بهزاد جنيدي

كانت دراسة الفلسفة من الخيارات المطروحة أمامي في مفاضلة البكالوريا، وكنت أملك رغبة قوية في دخول هذا الاختصاص ودراسته جامعياً وأكاديمياً لولا بعض التفاصيل التي أبعدت هذا الخيار وانتهى بي المطاف في قسم الأدب العربي.
يرتبط صورة الفيلسوف أو دارس الفلسفة في مجتمعاتنا الشرقية المتخلفة بصورة الإنسان غير الطبيعي عقلياً حتى كهيئة خارجية يتصورونه شخصاً منكوشَ الشعر، جاحظ العينين، نظارات سميكة، حتى تهمة الإلحاد تكاد تكون لصيقة بدارس الفلسفة.
هذه الصورة المشوهة للفلسفة لم تأت من فراغ بل لها امتداد ومحطات تاريخية أبرزها حين خرج الفيلسوف الفقيه المعروف في زمانه وزماننا “أبو حامد الغزالي” لإعلان الحرب على الفلسفة والفلاسفة “وعلى العقل” بإصدار كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة” الذي يقال أنه كتبه تحت الطلب انتصاراً للمذهب الأشعري المسنود سياسياً حينها ، وتصدى فيه للفلاسفة عموماً و”لأرسطو” ومترجميه من الفلاسفة المسلمين، وفي مقدمتهم “الفارابي” و”ابن سينا” على وجه الخصوص، ونجح عملياً في تقويض الفلسفة في الشرق الإسلامي منذ ذاك العهد إلى يومنا هذا بسبب مكانته الفقهية وقوة ومساحة تأثيره، ونسب فيما بعد لابن تيمية "شيخ الإسلام "مقولة :"من تمنطق فقد تزندق".
الفلسفة تعيش بيننا شئنا أم أبينا، نحن نتفلسف في حياتنا اليومية ونستخدم العديد من مصطلحات وآليات تفكير فلسفية دون أن نعلم، حتى الغزالي وهو يحارب الفلسفة والفلاسفة في كتابه المعروف حاربهم بعقلية فلسفية.
نعم كلنا فلاسفة لدرجة معينة من حيث لا ندري، ولكن هذا لا يكفي في العصر الحالي، وعلينا كأفراد ومجتمعات أن نتجاوز مرحلة التعاطي السطحي والعفوي مع الفلسفة وفروعها والانتقال لمرحلة الدراسة والبحث والوصول لدرجة الإنتاج والإضافة،
فـ "لا أحد سيصب الحقيقة في عقلك، إنه شيء عليك أن تكتشفه بنفسك"
والفلسفة لا تهدّد أي دين، ولا أي معتقد لأنها ليست بدين، ولا معتقد كما يروّج، أو يظن بعضنا، إنما هي فن التفكير، وأداة لفهم الحياة وهو آلة العقل لتحليل الوقائع والظواهر.
لم يتقدم العالم إلا على أكتاف وعقول الفلاسفة والمفكّرين الكبار الذي سخروا أعمارَهم للتفكير العقلي، ووضعوا حياتهم في خدمة البشرية.
"التأويل العقلي، العقد الاجتماعي، اللاوعي، الشك المنهجي، البراغماتية، المنطق الأرسطي ….. وغيرها الكثير من الأفكار التي نمرُّ بها مرور الكرام هي في الجوهر العملي والتاريخي براكين فكرية فجرت ثورات عظيمة، وبنت حضارات، وأسقطت أخرى، هي قوة مادية شرط أن نملك القدرة على تفكيكها وتحليلها وفهمها وتسخيرها مجتمعياً، واعتناقها بدراية أو نبذها بعقل.
ينسب إلى جيمس فريزر رأيه:
"مرت الإنسانية بأربع مراحل:
1- السحر، 2- الدين،3- الفلسفة، 4- العلم
العرب والمسلمون هم الوحيدون في العالم اليوم الذين ما زالوا يتراوحون بين المرحلتين الأولى والثانية "
علمًا أن الحضارات الحديثة لم تتشكل ولم تزدهر إلا بعد أن ابتعدوا عن السحر والدين، وأخضعوهما لمختبرات ومجاهر الفلسفة والعلم فكانت النتيجة هي الحضارة الأوربية الحديثة التي نشاهدها اليوم.
ليس من السهل أن تنتج المجتمعات فلاسفة عظام كابن الرشد والفارابي وآينشتاين وروسو وماركس ونيتشة وديكارت…. ولكن بمقدورنا على الأقل اكتشاف وتبنّي قوانينهم العقلية ومنهجم العلمي ونشر أفكارهم الجريئة والمتنورة التي فجّرت صخور الجمود والجبن والجهل في مجتمعاتهم والتي نحن بأمس الحاجة إليها اليوم.