فلك الدين كاكائي مازالت شمسك تدفئنا..!

فلك الدين كاكائي  مازالت شمسك تدفئنا..!

علي جزيري

معرفتي بوزير الثقافة الأسبق في حكومة إقليم كوردستان، ورئيس تحرير صحيفة «خەبات» الغرّاء، لم تكن تتجاوز قراءة كتاباته التي كانت تُنشر أو لقاءاته في وسائل الإعلام المرئية أو رسائله التي وصلتني ويحثُّني فيها على المضي قُدُماً، تلك التي مازلتُ أحتفظُ بها في أرشيفي الخاص، وأريتُها لابنتَهُ "ناز خان"، مع صور لكلينا التقطناها في مدينة قامشلو.
لكن، عقب زيارتين ميمونتين قام بهما طيب الذكر، توثقت علاقاتنا، ورحتُ أكنُّ له بدوري جزيل الاحترام، لما كان يتمتعُ به من تواضع وحسٍ ديمقراطي مرهف.
ولأنني لم أحظَ بحضور الاحتفال الذي دُعيتُ إليه رسمياً، والذي أقيم في دهوك احتفاءً بالشاعر الجزيري، كغيري من زملائي لظروف سياسية، لكنه حين زارنا دعاني لنلتقي، وكرّمني يومها، ثم اقترح عليَّ: لماذا لا نُخصص لك زاوية ثابتة في صحيفة خەبات - وكانت تصدر بالعربية كل يوم جمعة - تنشرُ فيها بصفة «محرر»، فوافقتُ، واغتنمتُ الفرصة دونما تردّد ما دامت الكتابة ملاذي الأخير، ولأن هاجساً كان ينتابني، ويطوف في خلدي، ويدفعني لتعرية القهر التاريخي الذي يتعرّض له الكُرد، مادمنا على حد قول نزار:
(مهجّرون من أمانينا وذكرياتنا، عيوننا تخاف من أصواتنا، حكامنا آلهة يجري الدم الأزرق في عروقهم، ونحن نسل الجارية).
وها هي الفرصة قد واتتني لفضح سياسة الأمر الواقع، والزيف الذي يُمارَس ضدنا من لدن سدنة النظام المتسلط على رقابنا، رغم معرفتي أن أداء هذه المهمة محفوف بمخاطر جمّة في ظل الأجواء الأمنية المتشددة في سوريا، والتي كانت تحظر في ظلها مجرد التفكير في الشأن الكردي.
صفوة القول، إنني كنتُ أريد أن أروي مثل "ميو هايلو"، في رواية "أين الله" لـ "مكسيم غوركي" المظالم التي تعرّضنا لها، دون أن نقترف وزراً سوى المطالبة بحقوقنا العادلة، لأن مطالبنا هذه في عُرف النظام، كانت تُدْرَجُ في خانة الجنايات التي لا تغتفر.
هكذا انبثقتْ زاويتي «حكايات سياسية»، ونُشِرَتْ أولى حلقاتها في العدد 895 من خەبات الصادرة يوم الجمعة الواقع 9 تشرين الأول 1998. ولا أخفيكم سراً إن قلت: شيدْتُها، وأقمت بنيانها على الحكاية الإيحائية، لصياغة رؤيتي في عالم السياسة، لأن الحكاية - بتقديري المتواضع - تستطيع التعبير عمّا يجولُ في الخاطر من جهة، ومقاربة الفكرة بعيداً عن الرقابة التي كانت تعد علينا الأنفاس من جهة أخرى، حتى قيل إن الفسحة التي يتحرك فيها الكاتب الكردي أشبه ما تكون بحقل ألغام.
إن التركيز على فن الحكاية في صياغة الرؤى له مبرراته، ليس لأن جذوره هذا الفن موغلة في القدم فحسب، بل لأن الطابع الشفاهي للحكاية يصونها عن أعين الرقيب كما أسلفنا، ويمنح الكاتب فسحة أكبر لمقارعة الاستبداد، وحثني المرحوم كاكائي على المضي قُدُماً على هذا الدرب. على هذا النحو حسمتُ الأمر، وقمتُ بتوظيف الحكاية بدلالاتها المتشعبة، لتعبّر في النهاية عن آلام وآمال الكرد المقهورين في الجزء الكوردستاني الملحق بسوريا تحديداً، وسلكتُ هذا الدرب الوعر، رغم هاجس الخوف الذي كان يُراودني، لمعرفتي أن الكتابة في ظل الطغيان، كما يقول زكريا تامر: (أقل أماناً من النوم مع الأفاعي في فراش واحد).