أدب القطارات
رياض علي
نحن المصابون بالاكتئاب المزمن، الاكتئاب الذي حين أصابنا؛ لم يأت خلسة، ولكنه جاء علناً وعلى مراحل.. ونحن بدورنا استقبلناه حاضنين جميع الآثار السلبية التي تكون عادةً ملحقة به.
ولذلك وجب علينا، ومن باب الثقة المعطاة إيانا أن نسطر هاتيك اللحظات لمن هو مقبل على ما مر علينا، عسانا نلقى الصدى قبل فوات الأوان ..
المرحلة الأولى
حدث ذلك حين ولدنا، جئنا الى هذا العالم حاملين معنا البذرة الصالحة لديمونة حالات الاكتئاب، ولكن - ولسوء الحظ - هنالك من لم يجلب معه تلك البذرة أثناء ولادته، إلا أنه هبط ومعه الأرضية الجاهزة لاستقبال أية حالة اكتئاب من الذين سبقوهم وكانوا محظوظين بامتلاكها، تلك الأرضية التي تكون عادةً جاهزة للإلقاح.
أما ما دفع من حالة الاكتئاب المكبوتة في الظهور، فهو مزاج المحبين من حولنا، فمن شعر بالوحدة حملنا فأوجع أجسادنا الناعمة في أحضانه، ومن شعر بالحب قبّلنا بحرقة، فأحرق من لهيب الحب خدودنا الرقيقة، ومن عاش الفراغ أفرغ طاقاته السلبية في عيوننا، وحين بكى واضعاً وجهه في رقابنا النحيلة؛ انتقلت مكروباته إلينا، فمرضنا، ولم يك أهلنا على علم بوعكاتنا المستمرة آنذاك، كل هذا ناهيكم عن قطعة القماش تلك وذاك الحبل القاسي الذي كانوا يربطوننا به في اغلب ساعات النهار، لنعيش شعور الاعتقال منذ نعومة أظفارنا..
المرحلة الثانية
وهي مرحلة الحضانة والطفولة المبكرة، وحدث ذلك حين حَبَونا وبدأنا نتعلم صغائر الأمور، وقتئذٍ كانت آمالنا لا تتجاوز المحيط العام بنا، أما أكبر أحلامنا فلقد كانت الوجبة التالية.. إلا أن عدم تراتبية الوجبات والخلود الإجباري إلى النوم، جعل الاكتئاب ينمو في محيطٍ يكاد يكون خالياً من الألوان.. فتأخرنا في النمو والنطق معاً..
المرحلة الثالثة
وهي أطول مرحلة، وتسمى مرحلة الطفولة حتى الشباب، بدأت حين بدأنا بالدراسة إلى أن وصلنا إلى مرحلة ما بعد المراهقة، حيث استغرق من الوقت أكثر من اثني عشر عاماً وتجاوز الأمر أحياناً إلى ستة عشر عاما (وأحياناً أخرى إلى عشرين عاماً) تلك السنوات كانت كفيلة بأن يكون الاكتئاب عالماً نشعر بانتمائنا إليه، ولربما المدارس والصفوف المقفرة وكادر التدريس الحزين كانت خير دافعٍ لنا كي نتظاهر بالسعادة رأفة بما يجول من حولنا.. ولذلك كنا عظماء حتى في اكتئابنا.
المرحلة الرابعة
وهي مرحلة النضوج، حيث نضج الاكتئاب معنا، وأصبح البوصلة التي ترسم لنا طريقنا في هذا العالم الواسع، فتوسعت مداركنا، زادت ثقافتنا، تبلورت أحلامنا، وصقلت شخصياتنا، كل ذلك ونحن مكتئبين..
صادقنا ونحن مكتئبين، أحببنا ونحن مكتئبين، كرهنا ونحن مكتئبين، تصالحنا ونحن مكتئبين، نمنا عشنا أكلنا شربنا رقصنا ونحن مكتئبين، حتى الأغاني التي كنا نرقص على أنغامها كانت قصصها جريئة وموجعة وأنغامها حزينة، لدرجة أن مساحة الاكتئاب لدينا كبرت وتوسعت أكثر من أحجامنا الطبيعية..
المرحلة الخامسة
مرحلة الحروب، لربما تكون هذه المرحلة هي المرحلة الوحيدة الطبيعية التي يكون الاكتئاب أحد آثارها، إلا أن مزاجنا العالي في ممارسة الاكتئاب اليومي، لم يسمح للحروب بأن تؤثر بنا، فنحن آلهة من الاكتئاب، أنموذج يحتذى به، وهو بالنسبة لنا - أي الاكتئاب - طقس لا يمكن الاستغناء عنه..
ولكن ثمة نقطة هامة ساعدت بازدياد اكتئابنا بمقدار درجة واحدة، تلك النقطة الفاصلة التي خلقت جزءاً مثيراً من شخصياتنا، ألا وهي: الانفصام.
الانفصام الذي تبلور كحالة كان لا بد من ان نمر بها، وإلا لكان اكتئابنا ناقص الأركان..
لسان حالنا يقول:
يا لهذا الأمر الجلل، وصلنا إلى منتصف العمر، والآن حان الوقت لنعيد الكرة من جديد، ولنبني كل ما بنيناه في حياتنا السابقة مرة أخرى.. وكأن كل ما حدث قبل الحرب لم يكن، ولم يحدث قط..