في البحث عن فكر قومي

في البحث عن فكر قومي

صالح محمود

ماذا تعني عبارة فكر قومي؟ الأقوام كلّها تفكر، ولا شك أنّ البشر كلهم يفكرون بطريقة أو بأخرى، المجموعات البشرية التي تتكلم لغة واحدة، وتعيش على بقعة جغرافية واحدة، وتدين بدين واحد، تسير في نسق أو مسار من التفكير تحافظ من خلاله على بقائها، وتحمي نفسها، فتصوغ بعض الرؤى والأفكار، وترسم خطوطاً وتوجّهات وطرق تعامل خاصة، وبالتالي فإن ذلك النسق أو المسار يسمى في النهاية فكراً قومياً.
إنّ أيّ فكر قومي لا يخلو من العنصرية والشوفينية، بل إننا لا نبالغ حين نقول إنّ العنصرية هي طبيعة كلّ فكر قومي وسمة ثابتة فيه، لقد كانت النازية وكذلك الفاشية تتويجاً لفكر قومي، وبالتالي فالفاشية والنازية هي أشكال متطورة ومتطرفة من الفكر القومي ، لقد ألّف هتلر في سجنه كتاباً سمّاه "كفاحي " وأصبح هذا الكتاب لبنة أساسية في بناء الفكر القومي الألماني المتطرف، فالفكر القومي لشعبٍ ما يدعو ذلك الشعب إلى أن يلتفّ حول نفسه، ويتمحور حول ذاته، ويغرس في أفراده الأنانية وتفضيل الذات على الآخرين، كان هتلر يرى أن الألمان وحدهم يستحقون قيادة العالم لأنهم متفوقون عرقياً على غيرهم من الشعوب والأمم حسب اعتقاده .
كذلك بنى اليهود في إسرائيل فكراً قومياً من أعراق مختلفة أساسه الدين اليهودي، وهذا يعني أنه ليس بالضرورة أن تكون عبرياً حتى تكون قومياً إسرائيلياً، بل يكفي أن تكون يهودياً كي تكتسب الجنسية الإسرائيلية، وتكون من المرحبين بهم في إسرائيل.
لقد جمعت إسرائيل اليهود من مختلف القوميات ومن كافة أنحاء العالم في بقعة جغرافية واحدة، وبنت لهم وطناً، فالتقوا بعد أن قضوا قروناً وأزماناً في الشتات، وأصبحوا متعصبين لقوميتهم الدينية المركّبة ولوطنهم الجديد، وبدوا وكأنهم أحفاد يعقوب تجمعهم رابطة الدم، وجعلوا من قوميتهم الدينية بناءً ذا طابع خاص، حافظ على كيانهم من كلّ خطر يهدّدهُ، فالسياسة ترسم، وتصوغ الشكل العام للقومية وتحدد مسارها وآفاقها.
ولكن كيف لفكرٍ قوميٍّ لشعبٍ ما أن يلقى القبول والاحترام من بقية الشعوب إذا كان هذا الفكر مبنياً على الاستعلاء والأنانية؟ هناك مشكل في هذا الاتجاه، عندما تتعصب الأقوام لأفكارها، وترفض التخلي عنها، ولا تتفاعل أو تنسجم مع بعضها البعض تنشب بينها نزاعات وحروب، ولكي تتجنّب الشعوب هذا المنحى وُلدت توجهات وأفكار جديدة كالفكر الإنساني أو الفكر الاشتراكي، وسابقاً الفكر الديني بغضّ النظر عن هويّته، وقد كانت هذه المجالات من الفكر فضفاضة وواسعة، ولاقت قبولاً أكثر من الفكر القومي الذي يبقى في النهاية مظلةً لشعب واحد دون غيره، وهناك بعض الشعوب لجأت إلى الحيلة لكي تخدم مصلحتها القومية فصاغت فكراً أو أيديولوجيا ذات صبغة دينية أو اشتراكية ولكن في النهاية وضعتها في خدمة مصلحتها القومية كإيران وروسيا على سبيل المثال لا الحصر، إنّ الطابع الإسلامي الشيعي للدولة الفارسية خدم في المقام الأول مصلحة الفرس، وكذلك الطابع الاشتراكي للاتحاد السوفييتي سابقاً أو لروسيا خدمت القومية الروسية في المقام الأول، فقد عمل ستالين على صهر القوميات الموجودة في الاتحاد السوفييتي في القومية الروسية، مع أنّه كان جورجياً، ولكنه كان حامل مشروع قومي روسي وفي جوهره يخدم المصلحة الروسية .
أما الفكر القومي العربي فقد ولد بشكله السياسي الحديث على يد ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وصلاح بيطار وغيرهم، ولكن من أين أتى هؤلاء بالفكر القومي العربي؟ لقد كان ميشيل طالباً في باريس وتأثر باندريه جيد ورولان بارت وعندما عاد هو وغيره من أوروبا بدؤوا يبحثون عن أسس لفكر قومي عربي، ولكن كيف؟؟ كان ميشيل يعمل ويناضل ليرجع للعرب عصرهم الذهبي عصر محمد والخلافة الأموية والعباسية، لقد أراد عفلق ذلك الشاب المثقف الرومانسي المسيحي أن يعيد للعرب أمجاداً حققها لهم الإسلام، مع أنّ حضارة الإسلام هي ثمرة كفاح مجموعة شعوب وقوميات مختلفة، وليس كفاح العرب وحدهم، لقد حاول عفلق وغيره من روّاد الفكر القومي العربي أن يوقظوا العرب، ويلفتوا أنظارهم إلى أمجادٍ لم يكونوا وحدهم صانعيها، وحاول هؤلاء الروّاد وبشتى الوسائل أن يصوغوا مجداً قومياً خاصاً بالعرب مستمداً من الإسلام، وبدأت قضية التزوير والتزييف والتشويه لخدمة هذا الفكر، حيث قاموا بإضفاء الطابع العربي والصبغة العربية على أمور لا علاقة لهم بها، وإنما أرادوا قنصها والاستحواذ عليها وللقصة بقية .....
إنّ الأحزاب القومية عموماً أخذت، واقتبست برامجها ومناهجها من الأحزاب الشيوعية والاشتراكية وكذلك من الدين الإسلامي، فالقوميون استعاروا عقول الشيوعيين لصياغة فكرهم وبرامجهم، فحزب البعث - على سبيل المثال - والذي يعدُّ أكبر الأحزاب القومية العربية في المنطقة منذ الأربعينات اصطبغ بالطابع الاشتراكي، وجعل تحقيق الاشتراكية هدفاً من بين أهدافه الثلاثة، لقد أراد هذا الحزب بتبنيه للفكر الاشتراكي أن يوسّع قاعدته الجماهيرية وأن يكتسب شعبية أكبر .
ويبدو أنّ العقيدة القومية لأي شعب لا تخلو من المؤثرات الدينية والاشتراكية، فالخالد الملا مصطفى البارزاني لم يكن يقرأ سوى القرآن، وكانت نسخة من المصحف الشريف ملازمة له في حله وترحاله، ومع أن البارزاني كان من دعاة الفكر القومي وهو خير ممثل للجانب التطبيقي العملي من هذا الفكر إلا أنه كان يرى في القرآن دستوراً مثالياً لشعبه، ولكل البشر، لقد كان البارزاني وغيره من قادة الثورات الكردية كالشيخ سعيد والشيخ محمود الحفيد وغيرهم أصحاب عقيدة مزدوجة شقّ إسلامي وشقّ آخر قومي، وقد كان هذا الأمر سبباً في تلكؤ الثورات الكردية ونضال الشعب الكردي، فعندما تتقاسم أنت وعدوك العقيدة نفسها والدين نفسه يكون الأمر في غاية الصعوبة والتعقيد، فالأتراك والفرس والعرب سلبوا من الكرد الأراضي والثروات والحقوق وخدّروهم بالدين.
إن العقيدة الحالية للشعب الصيني هي مزيج من الكونفوشيوسية والشيوعية، هذا هو حال الفكر القومي الصيني. فهو نسيج متعدد الألوان يعكس التعدد الإثني للصين، ولكنه في النهاية يربط الصينيين ببعضهم كخيط مسبحة، ويحرص على تماسكهم وتلاحمهم، والصين تلقّن الأطفال بهذا الفكر، وهذه الايديولوجيا منذ نعومة أظفارهم، فالفتى الصيني مؤمن، وله عقيدةٌ راسخةٌ وهو صغير لا يبلغ من العمر إلا أعواماً قليلة.
يحمل الفكر القومي عموماً في طياته جانباً روحياً فدعاته يركزون دوماً على إحياء روح الأمة عن طريق استرجاع الفترات المشعة من تاريخها، فالشعب الكردي في كل عام يحتفل بأعياد نوروز، ويشعل النيران التي هي ميزة خاصة بذلك العيد، إنّ ولادة نوروز جاءت في وقت كانت المجوسية والزرداشتية منتشرتين في تلك المنطقة، وهذا يعني أنّ مسألة النيران هي مؤثر ديني دخل على احتفالات نوروز الذي لم يكن عيداً قومياً محضاً، وما يدلّ على ذلك هو وجود أقوام أخرى تحتفل به إلى جانب الكرد، فهناك الأفغان والفرس وبعض الباكستانيين، وأقوام أخرى. فنحن وهؤلاء لا شكّ كنا في زمنٍ ما ندين بدين واحد لذلك نحن نحتفل معاً بهذا العيد.
إن الفكر القومي لأي شعب يدخل في نسيجه الخيط الديني بالضرورة، فميشيل عفلق وحزبه الذي حمل راية القومية العربية كان يسعى، ويعمل لاستعادة روح الأمة التي كانت عليها أيام النبي محمد الذي طلب السماء فامتلك الأرض.