التكتيكي والاستراتيجي في مستجدات العلاقات بين قوى الصراع على سوريا وخيارات السوريين (الجزء الأوّل)

التكتيكي والاستراتيجي في مستجدات العلاقات  بين  قوى الصراع على سوريا وخيارات السوريين (الجزء الأوّل)

نزار بعريني

لقاء أمني/ عسكري رفيع المستوى في موسكو الأربعاء ٢٨ ك١ ٢٠٢٢ يُثير فضول السوريين ومشاعرهم لمعرفة حقيقة ما يُحاك خلف الأبواب الموصدة، كما يطرح تساؤلات حول طبيعة تطوّر العلاقات بين نظامي البلدين الجارين، وتأثيراتها المحتملة على مآلات المرحلة الراهنة من التسوية السياسية ، وما تضعه من خيارات..
أوّلا
في تقييم أوّلي لنتائج الاجتماع، تكشف مصادر متطابقة النقاب عن اتفاق وزراء دفاع "تركيا وسوريا وروسيا "على تشكيل لجان" استخباراتية- عسكرية" مشتركة، تبدأ اجتماعاتها نهاية الشهر في موسكو أوّلاً ، وبعدها في أنقرة ودمشق.
أهمّ القضايا التي تمّ تناولها، ترتبط كما أكّدت تصريحات المسؤولين في الدول الثلاث بوضع آلية مشتركة لتسهيل عودة اللاجئين، بعد توفير الأرضية المناسبة، كما ناقشوا تصوّراً ما، يضع حدّاً لما تُعرف ب"قوات سوريا الديمقراطية" في سياق تمكين النظام السوري من بسط سيطرته على مناطق المعارضة "المتحالفة" مع تركيا !
في تصريح لوزير الدفاع التركي،"خلوصي أكار" تحدّث عن ضرورة حل" الأزمة" السورية بما يشمل جميع الأطراف، وفق القرار الأممي رقم ٢٢٥٤"، و أوضح أنّ "عودة اللاجئين يجب أن تتم بشكل طوعي وآمن ومشرّف، وأنّ تركيا أبدت استعدادها للعمل المشترك بهذا الخصوص"، كما أكّد على " استمرار التواصل مع النظام بشكل صحيّ "، وأنّ بلاده " تبذل جهودها في هذا الإتجاه...وفي حال كانت الظروف والشروط مناسبة، فمن الممكن عقد لقاءات على مستوى القادة "، وفق تعبيره. علاوة على ذلك ، أشار إلى أنّ هدف بلاده الوحيد هو محاربة الإرهاب،" و"تحييد حزب العمال الكردستاني PKK، ووحدات حماية الشعب YPG، وإرهابيي داعش، الذين يشكلون تهديداً لسوريا أيضاً".
مصدر دبلوماسي روسي قال أنّ الجهود الروسية سوف تبني على الخطوة الحالية في إطار تهيئة الظروف لعقد اجتماع على مستوى وزراء الخارجية مطلع العام المقبل، على أن تمهّد هذه الخطوة لعقد قمة ثلاثية على المستوى الرئاسي قبل منتصف العام، أي قبل حلول موعد انتخابات الرئاسة في تركيا، بحسب صحيفة "الشرق الأوسط".
من جانبها، قالت وزارة دفاع " النظام السوري " في بيان الأربعاء، إنه "جرى لقاء جمع وزير الدفاع ومدير إدارة المخابرات العامة السوريين مع نظيريهما وزير الدفاع ورئيس جهاز المخابرات التركيين في العاصمة الروسية موسكو، بمشاركة الطرف الروسي"، مشيرة إلى أن الجانبين بحثا ملفات عديدة وكان "اللقاء إيجابياً".
ثانياً
المحطّة الراهنة في العلاقات السورية التركية، بين التكتيكي والاستراتيجي في ضوء خلفيات المشهد السياسي والعسكري.
١- بالتكامل مع جهود دبلوماسية وسياسية خاضتها في إطار آستانة بعد أن اضطرّتها ضغوط أمريكية قاسية، على دخول المسار خلال ٢٠١٧ يخوض النظام التركي غمار حرب ضروس منذ ٢٠١٦ (متعددة الأشكال والأدوات، تخلّلها ست معارك كبرى، ضدّ إجراءات وخطوات تحقيق مشروع التسوية السياسية الأمريكي الروسي، لتناقضه مع مصالح تركيا الراهنة والمستقبلية (١) ؛ ورغم ما حققه من نجاحات في صناعة أوراق قوّة تفاوضية وموازين قوى عسكرية بأثمان غالية، دفع قسماً كبيراً منها السوريون وسيادة بلدهم، ما تزال واشنطن تتجاهل مصالح تركيا( وسوريا ) في الوصول إلى حل سياسي شامل، يُزيل أخطر آثار الخيار العسكري، سلطات الأمر الواقع الميليشياويّة، وينصف ملايين المهجّرين؛ وتصرّ على التمسّك بحصّتها التي تحكمها " قسد " و تُديرها واجهتها السياسية "مسد " ، وتعمل على " تأهيلها " - تحت ذريعة الضرورة لمكافحة " داعش " !
على الطرف الآخر ، رغم أهميّة "المساعدات اللوجستية" التي قدّمتها أنظمة روسيا وسوريا لقسد قبل وبعد ٢٠١٥ في إطار الخيار العسكري، فقد فشلت محاولاتهم اللاحقة لسحب البساط الأمريكي من تحت أقدام قادتها وتفكيك حلقات شبكة علاقتهما، وإعادتها إلى" حضن الوطن" بعد انتهاء مهمّتها، وباتت عقبة كبيرة أمام الوصول إلى "تسوية سياسية شاملة " مستقوية بالحماية الأمريكية، وبدماء السوريين الذين قاتلوا داعش، وبمظّلة حقوق الكرد القومية المشروعة، ويافطات الديمقراطية !!
٢- في مسألة التوقيت، والأهداف التي تسعى القوى المشاركة في المفاوضات السورية التركية لتحقيقها، وهل ستفتح أبواب تسويات شاملة ودائمة، أم تبقى في إطار " التكتيك " المرحلي "!
إلى أيّة درجة تمثّل الهواجس الأمنية المرتبطة بمصير سلطات الامر الواقع أولوية على مسألة اللاجئين، وهل يمكن فصلهما في خطط وسياسات النظام التركي"؟
في العلاقة ما بين التكتيكي والاستراتيجي في سياسات النظام التركي، يمكن القول إذا يصعب عمليًا الوصول إلى تفاهمات وصفقات سياسية ترتبط بقضايا " اللاجئين " و ترتيبات " لأمن الحدود " ، تؤدّي إلى " عودة الاستقرار والأمن إلى الحدود التركية والسورية" و " تبدّد المخاوف التركية "ولا تكون " على حساب المعارضة السورية " كما تشترط تركيا، دون الخوض بالتفصيل، والوصول إلى تفاهمات صفقة سياسية شاملة، حول مصير سلطات الأمر الواقع، والبحث في قضايا ترتبط " بسلوك " النظام السياسي، وبمستقبل سوريا الجيوسياسي.
دون أن نتجاهل عوامل التوقيت والدوافع الراهنة، من الموضوعية الاعتراف أنّ تركيا بفعل عوامل الجغرافيا والتاريخ، كانت الطرف المتضرر الثاني ، بعد السوريين ومقوّمات الدولة السورية ، من خيار الحرب، وقد تركت آثاراً خطيرة، تتجسّد حاليا بوجود ملايين المهجّرين، وما تشكّله أكبر سلطات الأمر الواقع من أخطار على أمنها القومي ،(و أسباب تفشيل الدولة السورية)، ومن مصلحتها وواجب نظامها، (في ظل استمرار استعصاء توفّر شروط قيام حل سياسي، خارج عن إرادتها) استثمار التوقيت المناسب لتصحيح ما فعله خيار الحرب؛ وهي في هذا السلوك تتقاطع مع مصالح ملايين المهجّرين الذين ينتظرون بفارغ الصبر فرصة عودة آمنة، ومع مصالح جميع السوريين في تفكيك سلطات الأمر الواقع، والحفاظ على وحدة سوريا الجيوسياسية!
ثمةّ قراءتان للمشهد:
يعتقد "ستيفن هايدمان " الأستاذ الأمريكي الشهير في دراسات الشرق الأوسط والخبير في قضايا الصراع على سوريا، أنّ السياسات التركية الراهنة تجاه سوريا تأتي في سياق تحقيق أهداف تكتيكية، ترتبط " بتغيير الظروف الأمنية في شمال سوريا أكثر ما لها علاقة بالأزمة السياسية".
يركّز هايدمان في قراءته للحدث، كما وردت أقواله في برنامج "ما وراء الخبر" على قناة'" الجزيرة" القطرية، على هواجس نظام الرئيس أردوغان الداخلية، ويعتقد انّ السلوك التركي الجديد " هو نتيجة للتحدّيات الداخلية التي يواجهها الرئيس أردوغان"، خاصّة على الصعيد الاقتصادي ، إذ يمرّ الاقتصاد التركي بصعوبات بالغة، وشعبية الرئيس في انخفاض ". يتابع موضّحا وجهة نظره (الأمريكيّة) : "نعلم أن معارضو أردوغان أكّدوا على موضوع اللاجئين ، وضرورة عدم بقاء اللاجئين في تركيا ".
بخصوص رؤيته لدوافع الرئيس الروسي، أشار الخبير الاستراتيجي الأمريكي لما يعتقده أنّ " روسيا تستغلّ الأزمة للدفع بمسار تطبيع العلاقات، التي لم تحقّق النتائج المرجوّة "، ويعتقد أنّها مسألة
" أزمة محليّة ، خلقت فرصاً لروسيا ، وعليه علينا أن ننتظر ما اذا كانت ستتحوّل إلى عملية دبلوماسية مفيدة" !!
في نفس الإطار، يعتقد الأستاذ " هايد مان " بوجود مبالغة في هواجس الأتراك الأمنية ، مؤكّدا عدم حصول " زيادة كبيرة في الحوادث على الحدود من جانب قوات سوريا الديمقراطية ، لأنّ " الولايات المتّحدة تعاونت مع شركائها في قوات سوريا الديمقراطية في كل المناطق لتخفيف مخاوف تركيا".
من جهة ثانية، وفي رؤية مختلفة، يرى العميد السوري المعارض "أحمد رحال "،الخبير في الشؤون السياسية والعسكرية السوريّة ، أنّ " ما تقوم به تركيا يأتي ضمن خارطة طريق رسمتها أنقرة، ولم تعلنه، لكن خطوطها واضحة"؛ وقد أوضح العميد رحال أبرز محطّات تطوّر العلاقات بين النظامين ": فلقاء القمّة، يجب أن يعبر في ثلاث مراحل:
أمني، يحصل طيلة سنوات ... عسكري بين وزارات الدفاع ، ثمّ سياسي، بين وزراء خارجية البلدين لوضع جدول أعمال القمّة،لتأتي لاحقا!" ثمّ يُضيف، شارحا أهداف الدبلوماسية التركية ، كما طرحها الناطق بلسان الرئاسة،"ابراهيم غالن"، الذي، وفقا لرحّال " وضع خمسة شروط ، تشكّل عمليا حزمة مترابطة لأهداف تركيا ، رغم ما قد يحدث" تجاوز لبعضها أو انتظار، لكنّ ..
قائمة الأهداف التركية واضحة" و" اللقاء بين الرئيسين ليس مجانيّا" :
أ- لن يكون على حساب المعارضة السورية.
ب-ايّة مصالحة يجب أن تبدد المخاوف التركية .
ت- تؤمّن انطلاق المسار السياسي والوصول إلى نتائج إيجابية.
ث- وتشترط أنقرة عودة الاستقرار والأمن إلى الحدود التركية والسورية.
ج- يضمن النظام أمن العائدين لمناطق سيطرة الحكومة."
٣-كيف نفهم سياسات الأطراف في ضوء عوامل السياق التاريخي؟
أ-في جوهر سياسات واشنطن ، من أجل أن تضمن الولايات المتّحدة كامل سيطرتها على المنطقة التي اقتطعتها بتوافقات شراكة استراتيجية مع " قسد "، والتي تشكّل قلب سوريا الإقتصادي وأكثر عوامل تهديد لوحدتها الجيوسياسية ( وبالتالي " اليد العليا " في تحديد مآلات" التسوية السياسية" ومستقبل سوريا) تسعى السياسات الأمريكية لفرض رؤيتها لخطّة تسوية سياسية شاملة، تقوم على مبدأ قيام تهدئة مستدامة بين جميع سلطات الأمر الواقع، وخارطة طريق تأهيل متزامن، يحافظ على الحصص ومناطق النفوذ التي صنعتها حروب تقاسم الحصص بين ٢٠١٥- ٢٠٢٠؛ وتأمل أن تصل "مفاوضات "اللجنة الدستورية الي توافقات تشكيل " حكومة وحدة وطنية"، "تشكل أداة عبور للمرحلة الجديدة، وعلى حساب روح القرار ٢٢٥٤ على الأقل كما فهمته بعض قوى المعارضة - '"هيئة حكم انتقالية مستقلّة ومفوّضة!!
ب-تتعارض خطط السيطرة الأمريكية ومشروع تسويتها السياسية مع مصالح أنظمة روسيا وسوريا ، اللتين تسعيان لفرض سيطرتهما على كامل الجغرافيا السوريّة، مع إمكانية ضمان مصالح الولايات المتّحدة وتركيا في إطار تسوية سياسية شاملة.
ت-تتعارض خطط السيطرة الأمريكية ومشروع تسويتها السياسية مع سياسات تركيا أيضا ، التي ترفض خاصّة قيام كانتون سلطة أمر واقع بقيادة "قسد " ومرشدها الأعلى "في جبال قنديل؛ وقد عجزت عن إقناع واشنطن بضرورة التخلّي عنه مقابل قيامها بضمان مصالحها، كما وعجزت عن فرض حدود منطقتها الآمنة، وتجد صعوبة علاوة على ذلك في التوفيق بين مواقف ومصالح الفصائل المرتبطة بها!!
ث- لا تتعارض خطط التسوية السياسية الأمريكية مع مصالح النظام الايراني، الذي نال حصّة الأسد من " سوريا المفيدة " ويقيم علاقات خاصّة مع قسد ، وهو ما ينطبق على موقف إسرائيل، التي تتحقق مصالحها في استثمار وتعزيز عوامل تفشيل سوريا، التي يوفّرها منع قيام حل سياسي شامل ، ولا يُضعف موضوعية هذا الاستنتاج التصارع المحتدم على مواقع السيطرة والتحكّم !!
(١)-
في كونه لا يؤسس لقيام حالة استقرار سياسي دائم، ولا يأخذ بعين الاعتبار مصالح ملايين المهجّرين داخل تركيا ، ولا قوى " المعارضة " المتحالفة معه، ولا مخاوف تركيا التاريخية تجاه مشروع حزب العمّال الكردستاني التركي، ووكيله القسدي.
في قراءة عامّة لسياسات تركيا تجاه الصراع المستمر منذ ربيع ٢٠١١، يمكن الاعتقاد أنّ الظرف الأفضل لتحقيق مصالح تركيا العليا يتقاطع مع مصالح غالبية السوريين المتضررين من خيار الحرب ونتائجه ، ويتوفّر في سياق صيرورة " حل سياسي" شامل ، تتضمّن في إحدى مراحلها خروج قوات جميع خصوم تركيا ومنافسيها على السيطرة السوريّة -الروسي والايراني، والأمريكي ، وتوفير ظروف بناء حالة استقرار سياسي دائم ، بالتزامن مع تفكيك سلطات الأمر الواقع، وقيام سلطة مركزية قادرة على خلق توازن بين مصالح دول الإقليم ومصالح جميع السوريين؛ وهو المسار الوحيد الذي يدفع النظام التركي للتخلّي عن أوراق قوّته السوريّة ، التي راكمها منذ ٢٠١٥ والتي يحاول شرعنة وجودها عبر مفاوضات صفقة سياسية !!
في العمق، تترابط أسباب مأزق السياسات التركية مع أسباب المأزق السياسي السوري، وتكمن في إصرار الولايات المتّحدة على رفض مسار الحل السياسي، لما يترتّب عليه من نتائج قد تقوّض ما راكمته من نجاحات في الاستثمار في"خيار الحرب" وأدواته ونتائجه- تفشيل سورية واحتلال قلب سوريا الاقتصادي وأكثر المواقع الجيوسياسية في الجغرافيا السوريّة اهميّة.
لاتضعف موضوعية تلك الرؤية ما طرأ على السياسيات التركية من "إنزياحات " على الصُعد العسكرية والسياسية خلال المرحلة الثانية من الحرب، خلال ٢٠١٦ وما بعدها، بفعل خلل موازين قوى الصراع لصالح المحور " الأمريكي الروسي والايراني "وهو ما اضطرّها لدخول مسار آستنة عام ٢٠١٧ وما يضطرّها اليوم للانخراط في المرحلة الأخيرة من التسوية السياسية الأمريكية- إجراءات تطبيع إقليمي!!