مارجريت رودينكو.. السنبلة الروسية المسقاة من التراث الكردي

مارجريت رودينكو.. السنبلة الروسية المسقاة من التراث الكردي

ماجد رمو

التراث بأبسط تعريف:هو كل ما يرثه جيل من الأجيال السابقة، ويشمل هذا الارث، اللغة والعادات والتقاليد والمفاهيم والقيم والمبادئ والعلوم والفنون والآداب وأنماط الحياة وأنماط البناء والطقوس الدينية والأمثال والقصص وغيرهم.
ويعتبر التراث الآلة الزمنية التي تعرض للأجيال ماكان يدور في حياة الأجيال التي سبقتهم وانماط معيشتهم، فمن لايدرك كيف تشكلت هويته في الماضي وطريقة انبعاث ثقافته يصبح من الصعب جداً عليه تحديد وجهته المستقبلية.
ولا يسعنى حال الخوض في الحديث عن التراث الكوردي الرصين إلا أن نذكر المستشرقة الروسية مارجريت رودينكو الجورجية المولد والاوكرانية اللقب وروسية التعلم والثقافة .
ولدت المستشرقة الروسية رودينكو في 9 مايو1926 في جورجيا وبرز نبوغها في وقت مبكر حيث انهت بعمر العشرين الدراسة الجامعية، والتحقت عام 1951 كطالبة دراسات عليا بمعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم في لينينغراد والتي تعرف حالياً باسم بطرسبورغ والتي كانت في السابق عاصمة روسيا القيصرية الدولة الاوربية الوحيدة المشتركة بحدود مع كوردستان .
كانت مارجريت رودينكو قد اختارت لرسالتها العلمية في معهد الاستشراق مخطوطة ملحمة ممو زين للشاعر والفيلسوف الكوردي أحمدى خانى، وكانت تلك المخطوطة من بين المخطوطات والدرر الكردية الثمينة جداً الموجودة في خزائن مدينة بطرسبورغ والتي خرجت إلى النور ونفض عنها غبار الجمود والإهمال بيد السنبلة الروسية رودينكو، ودافعت عنها ببسالة عام1954 لتنال درجة الدكتوراه في الادب الكوردي، وتلحق بذاك الانتصار نشرها كتابا" تحت عنوان (مجموعة ألكسندر ذابا من المخطوطات الكوردية) التي جمعها المستشرق البولندي الاصل الكسندر ذابا خلال عمله الدبلوماسي بصفة قنصل روسيا القيصرية في مدينتي ارضروم وسميرنا (ازمير حاليا") وبمعونة عدد من الملالي ورجال الدين الكرد وفي مقدمتهم العالم الكردي الموسوعي الملا محمود البايزيدي، وتتألف مجموعة ذابا، كما تقول رودينكو، من (54) مخطوطة منها (44) مخطوطة باللغة الكردية و(4) باللغة الفرنسية و(3) باللغة التركية، وهذه المخطوطات تتضمن نتاجات في شتى جوانب الثقافة الكوردية (اللغة، الادب، الفولكلور، الاثنوغرافيا، التاريخ) وهي محفوظة في مكتبة سالتيكوف – شدرين الحكومية العامة في مدينة بطرسبورغ.
ثم أصدرت عام 1961 كتابها الشهير(المجموعة اللينغرادية من المخطوطات الكوردية) فلفتت بذالك أنظار الكثيرين غيرها الى وجود عدد كبير من المخطوطات الكوردية الثمينة في خزائن بطرسبورغ، ولم تقف رودينكو عند هذا الإنجاز العلمي الخصب بل كرست جل طاقاتها العلمية الكبيرة لتحقيق وترجمة ونشر أهم النتاجات الشعرية والنثرية التي تضمنتها هذه المخطوطات، وأصدرت رودينكو عام 1962 كتاباً جامعاً وشاملاً عن ملحمة ممو زين، وقامت بدراسة مقارنة لنصوصها الفلكلورية والأدبية وترجمتها الى اللغة الروسية مع مقدمة قيمة وتعليقات ذكية ليصبح هذا الكتاب فيما بعد مرجعاً ومصدراً للباحثين الآخرين ومنهم الباحثين الكورد الذين تناولوا هذه القصة الشعرية بالبحث والتحليل في السنوات اللاحقة ولم يستطيعوا رغم ذلك التملص من التأثير القوي لرودينكو في اروقة الملحمة المذكورة .
وقامت رودينكو بتحقيق ونشر الكثير من المخطوطات الاخرى وترجمتها الى الروسية مثل (الشيخ صنعان) لفقي طيران و(ليلى ومجنون) لحارس البدليسي و(عادات وتقاليد الكورد) للملا محمود البايزيدي، بالإضافة إلى كتاب لها بعنوان (حكايات شعبية كوردية) وشاركت في تحقيق وترجمة (الأغاني والقصص الملحمية الكردية)
ولعبت رودينكو دور ينبوع الثقافة والتراث الكوردي في كافة المؤتمرات والندوات التي عقدها المستشرقون داخل وخارج روسيا فكانت سباقة في إخراج درر التراث الكوردي الى النور وشد الباحثين الى ما تبقّى من المخطوطات غير المحققة، إضافة الى جمعها لعدد كبير من الأمثال والاقوال السائرة لشعوب الشرق الصادر في موسكو عام 1961 من الكثير من المصادر بالإضافة الى جهدها الشخصي.
وحصلت رودينكو عام 1973 على شهادة الدكتوراه العليا (دكتواره العلوم) عن القصة الشعرية (يوسف وزليخة) للشاعر الكوردي سليم بن سليمان وكانت قد قامت بترجمتها الى اللغة الروسية وكتبت مقدمة طويلة لها بالإضافة للشروحات، ونُشرت بعد وفاتها المبكر بمرض السرطان صيف 1976 في بطرسبورغ.
رحلت السنبلة الروسية التي حشدت جل امكانياتها وطاقاتها العلمية في خدمة التراث الكوردي والثقافة الكوردية العريقة واندثرت في أرجاء العالم حبات قمحها المعرفية، في حين ظلت ذكراها حاضرة الأذهان، وبقي اسمها كعلامة تدل على طريق اخراج المخطوطات الكوردية المهملة والموزعة في أرجاء العالم، لنكون نحن الكورد بدراية بتراثنا وثقافتنا ولنصبح الجسر الصلب والصحيح لإيصال دررها الى بقاع العالم.
رحلت رودينكو ولكن! يا ترى تراثنا الكوردي كم رودينكو يلزمه ليبصر النور؟ وكم ندوة ثقافية نحتاج لنتعرف ببعض الادبيات التي خلفها اسلافنا على مر العصور؟ الأدبيات المُشبعة بالتراث التي لو كتب لها أن تبصر النور لضاهت ادبيات العالم التي يتغنون ببديع الوانها، ولحسبتهم سُكارى أول ارتشافهم للذيذ الادب الكوردي، يترنحون في زقاقات حبكة خيوطها ويغرمون بممشوق قوامها الادبي وتراثها الثمين.