فلسفة الشرّ بين موراي بوكتشين وعبدالله أوجلان

فلسفة الشرّ بين موراي بوكتشين وعبدالله أوجلان

صالح محمود

لنسأل في البداية، من هو موراي بوكتشين هذا؟ موراي: هو فيلسوف أمريكي من أصول روسية، هاجر والداهُ إلى أمريكا عقب الثورة الروسية الأولى عام 1905 واستقرّا واستوطنا هناك منذ ذلك الوقت، وقد رُزقا بموراي عام1921، وعندما أصبح الفتى شاباً يافعاً تأثر بأفكار ماركس وأنجلز وغدا شيوعياً لفترة قصيرة، لكنّه لم يتوقف عند الافكار الشيوعية والاشتراكية فحسب، بل انحاز إلى فكرة تروتسكي التي تقول : " إنّ الماركسية ذاتها بحاجة إلى إعادة نظر بعد الأحداث التي جرت في بعض البلدان في ذلك الحين، والتطبيقات غير الموفقة للماركسية ولأفكار لينين"
- حلّق بوكتشين بفكره بعيداً وأصبح صاحب فلسفة فوضوية ترفض أنماط المجتمع السائدة والكلاسيكية وتعمل على هدمها وتسعى إلى خلق نماذج جديدة لا يُشترط فيها أن تكون منطقية أو مقبولة من أبناء المجتمع ذاته، لقد رسم موراي الخطوط العريضة لفكره من خلال مراقبة تطور الرأسمالية الخطير على البيئة تحديداً والتي أصبحت بالنسبة له هاجساً كبيراً، وتوصّل إلى نتيجة وهي أن الرأسمالية لا تقدّر البيئة ولا تحافظ عليها ولا تهمّها مسائل كحرية وديمقراطية الشعوب، لذلك آمن بمبدأ (البلدية التحررية) كمخطط لتغيير واقع الدول والمجتمعات وفقاً لفلسفة هو يؤمن ويعتقد بها، وقد فسّر بوكتشين مفهوم البلدية التحررية على أن التغيير الاجتماعي لا بدّ أن يبدأ من مستوى(محلي /بلدي)، إذ يجب تغيير هيكلية المجتمع لتصبح السلطة بيد الشعب، والطريقة الفُضلى هي البدء من (مدينة /قرية /بلدة)، حيث يمكن خلق ديمقراطية مباشرة تقوم على الجمعيات الديمقراطية كمؤسسات تحررية واستبدال اتحاد من البلديات الحرة بالدولة، حيث دعا إلى تقسيم المجتمع إلى كوميونات مستقلة تُحافظ على البيئة، وأن يكون هناك ترابط عضوي وحيوي بين القضايا الاجتماعية والبيئية، وأن تُحمى البيئة من شرور الرأسمال، وهذا الأمر يطلق عليه بوكتشين (الايكولوجيا).
لقد كان موراي من أنصار الكوكب في خطر، ويجب اتخاذ الخطوات اللازمة للحفاظ على البيئة، ويتضمّن مبادئ بوكتشين كذلك: إنشاء إدارات ذاتية تعتمد على المناطقية وشعوب المنطقة الواحدة دون وضع اعتبار للمسألة القومية، والتركيز على مشاركة شعوب الكوميون الواحد في الإدارة الذاتية لمنطقتهم، ويضاف إلى ذلك المشاركة الواسعة للمرأة إلى جانب الرجل في كل شيء. وبذلك يكون بوكتشين أناركياً بامتياز، والأناركية: هي اتجاه في التطور التاريخي للجنس البشري، وتعني اللاسلطوية، أي: أن يدير المجتمع أموره ذاتياً دون تسلُّط لفرد أو جماعة، وكذلك استبدال مؤسسات شعبية أفقية بمؤسسات الدولة المركزية والهرمية.
إنّ الأصول اليونانية لكلمة أناركي تعني (آن و أركي) وهي تبدو كشيء ( بدون حكام)، وقد قال بوكتشين:" إنّ المرء يمكن أن يعتبر نفسه أناركياً إذا آمن بأنّ المجتمع يمكن أن يُدار بدون دولة"، فرفض الدولة هو أهمّ مبدأ من مبادئ الاناركية.
لقد أصبح بوكتشين صاحب فلسفة غامضة ومشوّشة وفوضوية إلى حدّ كبير، وقد ألف (24 ) كتاباً، جميعها شروحات وتفسيرات لفلسفته الفوضوية التي لم تنل – رغم ذلك - الشهرة الكافية أو الصيت الواسع، ولكنّ السؤال هنا ماهي علاقة أوجلان بهذه الفلسفة؟ ومتى بدأت؟ ولماذا تبنّى اوجلان هذه الفلسفة دون غيرها؟ وهل كان الأمر محض صدفة ؟ أم أنّ موضوع اختيار هذه الفلسفة الهدّامة قد جاء ضمن سياق خطة مُحكمة رسمتها قوى غريبة كالمخابرات التركية أو الامريكية؟ وهل التحالف الموجود بين قسد وأمريكا أمر هُيئ له منذ زمن بعيد عن طريق هذه الفلسفة ؟ وهل سيصبح نهج وفكر بوكتشين حصان طروادة الذي سيهدم الكرد وقضيتهم من الداخل؟ إنّ المستقبل كفيل بالإجابة عن بعض هذه الأسئلة، والسنوات القادمة هي التي ستكشفها.
لقد بدأت القصة عند اعتقال أوجلان في عام 1999 وترحيله وعزله في سجن على جزيرة اومرالي التركية، حيث تطوع محاميان ألمانيان للدفاع عنه، هما أوليفر كونتني وريمار هايدر، وهذان المحاميان هما اللذان سرّبا مؤلفاً لبوتشكين إلى أوجلان الذي انكبّ بدوره على قراءته ودراسته، ويبدو أنّه قد وجد ضالته فيه، فقد طلب المزيد من كتب بوكتشين المترجمة إلى التركية طبعاً، ولم يكتفِ بقراءتها فقط بل تبنّى النهج البوكتشيني اذا صحت التسمية، ونصح رفاقه عن طريق محاميه بقراءة وتطبيق ما جاء في كتب بوكتشين، وقد حمّل اوجلان كونتني الذي راسل بوكتشين بالبريد الالكتروني رسالةً يقول فيها (بأنه تلميذ نجيب وطالب ناجح لأفكاره، وبأن حركة الحرية الكردية عاقدة العزم على تنفيذ افكاره بنجاح)، وقد فوجئ بوكتشين باهتمام زعيم حزب العمال الكردستاني المُدان بأفكاره، ممّا جعله يحمّل (كونتني ) رسالة جوابية إلى مؤتمر الشعب الديمقراطي في جبال قنديل، حيث قُرئت الرسالة في ذلك المؤتمر- بعد ترجمتها الى الكردية والتركية - وسط تصفيق المندوبين لبوكتشين، ولاقى مضمون الرسالة استحسان الحاضرين جميعاً، لا سيّما أنّها من شخص مُوصى به من اوجلان، ومع الأيام ازداد تأثر اوجلان بفكر بوكتشين ونهجه وعقيدته، مما دفعه الى تأليف كتاب بعنوان (من دولة الكهنة السومرية نحو حضارة ديمقراطية) الذي شكل خلاصة تأثره بأفكار ذلك المفكر الامريكي وتبنيه لنهجه في الحياة، لقد شقّ اوجلان بعد ذلك لنفسه أو لحزبه سبيلاً جديداً مستوحى من مبادئ الاناركية، وبعيداً عن شعارات التحرر القومي والكفاح المسلح وكردستان الكبرى، تلك الشعارات التي تربّى عليها ودعا لها وحارب في سبيلها طوال السنوات الماضية، والسؤال هنا ما مدى إخلاص ووفاء أوجلان وأنصاره لنهج موراي بوكتشين؟
لقد ركّز بوكتشين كثيراً على مسألة الديمقراطية والشعوب الديمقراطية، ولم يكن في يوم ما يفكر بنهج غير ديمقراطي أو حكم فردي في حين أن اوجلان بنى دكتاتورية ونصّب نفسه الزعيم الأوحد ليس لحزبه فقط بل للشعب الكردي في أجزاء كوردستان كلها، أما المسألة الثانية وهي مسألة الايكولوجيا التي تتكرر كتابتها على لافتات أنصار اوجلان في كل مناسبة يقومون بها دون شرح أو تفسير، فإن أنصار أوجلان - بلا شكّ - هم أبعد الناس عن الالتزام بهذه الفكرة أو التوجه!! والمحارق التي نُصبت على مساحات كبيرة في شرق الفرات هي خير دليل على ذلك ولا يخفى على أحد الدمار البيئي والصحي الذي سببته هذه المحارق، لقد ابتعد أنصار أوجلان كثيراً عن نهج بوكتشين في هذا المجال، لكن أنصار أوجلان التقوا مع موراي بالخطوط العريضة واختلفوا معه في بعض التفاصيل، وموراي الذي مات عام 2006 كان سعيداً بتبني أفكاره من قبل أوجلان وأنصاره.