وجهٌ أبيضُ لا يعرفُ الدّم

وجهٌ أبيضُ لا يعرفُ الدّم

هيثم مراد

كان دلير طفلًا صغيرًا يحمل في جسده سرًا أثقل من سنواته القليلة. كان يضحك مثل الآخرين، يحاول أن يركض، يقفز، يلعب… لكنه سرعان ما يتوقف، يضع يديه على ركبتيه ويتنفس بصعوبة، كأن الهواء يهرب منه. لم يكن يعرف لماذا جسده يخذله دائمًا، لكنه كان يسمع الكبار يتهامسون حول كلمة غريبة: (التلاسيميا).

في كل خمسة عشر يومًا، كان موعده مع المستشفى لا يشبه موعد أي طفل آخر مع اللعب أو المدرسة. يجلس على السرير الأبيض، تمتد إبرة إلى يده الصغيرة، ويتدفق عبرها دم جديد. كان دلير يحدق بالأنبوب الشفاف، كأنما يراقب حياة غريبة تدخل عروقه. وحين يغفو قليلًا، كان يتخيل أن الدم يتحدث إليه:

– “مرحبًا دلير، جئت لأمنحك قوةً قليلة، كي تركض مع أصدقائك من جديد.”
– “لكن لماذا لا تبقى؟ لماذا تتركني ضعيفًا بعد أيام؟”
– “أنا ضيف يا دلير… أجيء من أجساد الآخرين، وأذوب فيك ثم أرحل. لست دمك الحقيقي.”
كان دلير يبتسم حزنًا، يهمس:
– “أريد دمًا لا يرحل.”

لم تكن حياته سهلة. الطعام الذي يشتهيه كل الأطفال كان محرما" عليه. حين تجتمع العائلة على مائدة فيها لحم مشوي أو سبانخ أو مأكولات غنية بالحديد، كان يكتفي بالخبز أو بعض الأرز. أمه تخفي عنه الأطباق أحيانًا كي لا تجرحه شهوته المكبوتة. وكان يسألها بعينين دامعتين:
– “لماذا أنا مختلف؟ لماذا لا آكل مثلهم؟”
فتحتضنه وتخفي دمعتها، تهمس:
– “لأن الله يحبك كثيرًا يا دلير، ويريد أن يحميك.”

لكن الأطفال في المدرسة لم يكونوا يملكون هذا الحنان. كانوا يضحكون من بياض وجهه، من ضعفه حين يلعب كرة القدم، من تأخره عن الحصص لأنه في المستشفى. في أحد الأيام، صاح أحدهم ساخرًا:
– “دلير يشحن دمه مثل الهاتف… لو انتهت بطاريته يموت!”
ضحكوا جميعًا، أما دلير فجلس في زاوية الصف، يحاول أن يخفي دموعه. في تلك الليلة، تحدث مع دمه مجددًا:
– “لماذا تجعلهم يسخرون مني؟”
– “أنا لا أريد ذلك، لكنني ضعيف، وأنت تحملني على ظهرك.”
– “أحيانًا أتمنى لو لم أولد هكذا…”
سكت الدم طويلًا، ثم قال:
– “لكنك وُلدت لتعلم الآخرين قيمة الحياة، دلير.”

وفي أحد الأيام، ذهب مع والديه إلى المول لشراء بعض الحاجيات. حين وصل إلى المحاسبة، نظرت إليه الفتاة بابتسامة عابرة وقالت:
– “وجهك أبيض كثير… يفضل أن تتعرض للشمس قليلًا.”
ابتسم دلير، لكنه شعر بغصة. لم تكن تعرف أن بياضه ليس من الشمس، بل من دمٍ ناقص. جسده كان لوحة بلا ألوان، بياضه لم يكن جمالًا، بل علامة مرض تسكنه.

والده كان يمشي إلى جانبه في صمت. رجل قوي يخجل أن ينهار أمام طفله، لكنه كل ليلة يجلس في غرفته وحيدًا، يضع يديه على وجهه، ويقول في داخله:
– “ليتني أستطيع أن أعطيه دمي كله… ليت الألم يأخذني بدلاً منه.”
أما الأم، فكانت أكثر ضعفًا، تبكي أحيانًا وهو نائم، تنظر إلى ذراعه المثقوبة من الإبر وتقبلها كأنها جراح على قلبها هي.

وفي إحدى جلسات المستشفى، جلس الطبيب مع الأبوين وقال لهما بجدية:
– “التلاسيميا ليس قدرًا لا يمكن تجنبه. إنه مرض يمكن منعه بالفحص قبل الزواج. لو فحص الناس دمهم قبل أن يتزوجوا، لما جاء إلى الدنيا مزيد من الأطفال يعانون مثل دلير.”

كانت الكلمات ثقيلة كالصخر، لكنها كانت الحقيقة. خرج الأبوان وقلباهما مثقلان بالندم. دلير لم يفهم ما قاله الطبيب، لكنه شعر أن والدته تمسكت بيده بقوة أكبر من المعتاد، كأنها تحاول أن تربطه بالحياة أكثر.

دلير عاش طفولته بين المستشفى والمدرسة والبيت، لكنه ترك في قلوب والديه أثرًا أعمق من أي إنسان. كان كل تنهيدة منه درسًا، وكل ابتسامة منه معركة انتصر فيها على الوجع.

وكانت حكايته تصرخ بصمتٍ في وجوه الجميع: قطرة دم واحدة في تحليلٍ قبل الزواج قد تنقذ طفلًا آخر من أن يولد مثقلاً بالوجع، وتبقي ابتسامةً صغيرة مثل ابتسامة دلير حية لا تنطفئ.