الأغنية الكوردية بين أصالة الروح وضجيج المناسبات

الأغنية الكوردية بين أصالة الروح وضجيج المناسبات

هيثم مراد

في السنوات الأخيرة أخذت الأغنية الكوردية منحى مختلفًا عن جذورها الأصيلة، إذ طغت الألحان الراقصة والإيقاعات الصاخبة على حساب الكلمة واللحن العميق. صار همّ الكثير من المنتجين والمغنين الجدد ملء ساحات الحفلات وتلبية طلبات السوق السريعة، بدلًا من المحافظة على الهوية الفنية والرسالة الثقافية التي حملتها الأغنية الكوردية لعقود طويلة. فالغناء ليس مجرد أصوات تتردد، بل هو رسالة، وهوية، وثقافة تعبّر عن روح الإنسان وتوثّق حضوره في الفرح والحزن معًا.

ندرك تمامًا أننا لسنا موسيقيين محترفين، لكننا نمتلك أذنًا موسيقية تستطيع أن تميز بين الغناء الصادق وبين الأصوات المصطنعة. إذ إن المتابع للمشهد الفني يلاحظ بوضوح أن عددًا كبيرًا من الأصوات الجديدة يعتمد على الخشونة المبالغ فيها، وعلى رفع الصوت بطريقة مصطنعة، مع فتح الفم بشكل مبالغ فيه وكأن الغناء مجرّد صراخ مدعوم بالميكروفونات وأجهزة الصوت. هذا الأسلوب يبتعد عن الاستخدام الطبيعي للأحبال الصوتية، ويجعل الصوت قاسيًا وجافًا، يفتقر إلى الدفء والإحساس. ربما يثير هذا النمط الحاضرين في رقصة عابرة، لكنه لا يترك أي أثر في الذاكرة، لأنه يفتقد الروح التي كانت سر جمال الأغنية الكوردية.

الأغنية الكوردية الأصيلة لم تكن يومًا مجرد رفع للصوت أو شد للأوتار، بل كانت حالة وجدانية تنبع من القلب قبل الحنجرة. من يستمع إلى تجارب الرواد مثل شفان برور، محمد عارف جزيري، مريم خان، ومحمد شيخو، يدرك أن سر تأثيرهم العميق لم يكن في قوة الصوت وحدها، بل في صدق الأداء والعاطفة التي تسكن الكلمات. هؤلاء الفنانون لم يبحثوا عن إثارة ضجيج لحظي، بل حملوا همومًا إنسانية وغنّوا للحب والحرية والأرض والكرامة. صوت محمد شيخو مثلًا ظل محفورًا في ذاكرة الأجيال، لأنه جمع بين بساطة اللحن وحرارة الكلمة وصدق الإحساس.

الغناء الكوردي في جوهره كان مخصصًا للفرح والأعراس، ولم يكن وسيلة للتعبير عن الحزن. النساء اللواتي فقدن أزواجهن أو أحد أقاربهن كنّ يرثينه بكلمات بسيطة، بصوت خافت حزين لا يسمعه إلا من يجلس بجوارهن، فيزداد تأثرًا ويشاركهن البكاء. كان ذلك أشبه بمناجاة حزينة تحفظ للفقيد هيبته وللحزن قدسيته. أما اليوم فقد دخلت عادات دخيلة جعلت من الأغاني الصاخبة وسيلةً تُغنّى حتى على توابيت الموتى والشهداء، فاختلطت مشاهد الفرح بمواكب العزاء، وضاع الفاصل بين الرقص والبكاء.

اليوم، ونحن نسمع أصواتًا ناشئة تحوّل الأغنية إلى مجرد إيقاع راقص، لا بد من التوقف والسؤال: إلى أين نتجه؟ هل نريد أن نفقد هويتنا الفنية مقابل شهرة عابرة في صالة أفراح، أم نحافظ على جوهر الغناء الكوردي كمرآة للوجدان الجمعي؟ إن الفرق بين الأغنية الأصيلة والجديدة ليس فقط في الشكل، بل في المضمون أيضًا؛ فالأولى تعيش في الذاكرة وترافق المستمع سنوات طويلة، بينما الثانية تختفي بانتهاء المناسبة.

قد يكون من حق الجيل الجديد أن يجرب أساليبه وأن يواكب الحداثة، لكن المسؤولية تفرض أيضًا العودة إلى الجذور، والاستفادة من إرث الكبار الذين أثبتوا أن الأغنية ليست مجرد وسيلة للتسلية، بل رسالة ثقافية وهوية إنسانية. إن الأصوات التي تسعى إلى الشهرة السريعة عبر الصراخ والخشونة تفقد قيمتها بمرور الوقت، بينما يبقى الصوت الصادق حاضرًا جيلًا بعد جيل.

إن مستقبل الأغنية الكوردية مرهون بقدرة الفنانين الشباب على الموازنة بين الجديد والقديم، بين الإيقاع العصري والروح الأصيلة. فالأغنية ليست مجرد ضجيج لحظي، بل هي ذاكرة أمة وصوت شعب وتاريخ طويل. وإذا ما فقدت هذه الأغنية صدقها وعمقها، فإنها ستفقد مكانتها كأحد أهم أعمدة الثقافة الكوردية، وستخسر رسالتها التي جعلت منها يومًا لغة الروح ووجدان الإنسان.