ربيع الشريطي: الكرد جزءٌ أصيلٌ من سوريا.. والاعتراف بحقوقهم أساس لكل طرح سياسي الآن وفي المستقبل
حاوره: عمر كوجري
قال الكاتب والباحث السوري ربيع الشريطي إن الإعلام الرسمي يصوّر ما يحصل في السويداء على أنّه حرب بين طرفين؛ قوات الدولة من جهة، ومجموعات خارجة عن القانون من جهة أخرى، مستخدمًا بروباغندا إعلامية شعبوية تعتمد على تزوير الحقائق والتحريض المُمنهج لتحشيد أكبر قدر من المقاتلين وزجّهم في معارك السويداء.
وأكّد في حوار خاص مع صحيفتنا «كوردستان» أن السلطة الحالية كان بإمكانها أن تقدم حلولاً سياسية لحقن الدماء، ولتحقيق تفاهمات، إلّا أنها اختارت من الحلول ما يناسب طبيعتها وتاريخها الدموي، وهي الآن في مأزق كبير.
وعن وضع الكرد في سوريا قال الشريطي: الكرد جزءٌ أصيلٌ من سوريا، والاعتراف بحقوقهم هو أساس لكل طرح سياسي يطرح الآن أو مستقبلًا، فلا مجال للتفاوض على الحقوق المشروعة والتي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان وجميع المواثيق الدولية، وهي حقوق فوق التفاوض والمساومة. وأعتقد أنه من المفيد جدًّا إطلاق حوار بين السوريين كلهم عن ماهية المشتركات التي تكون دعامة لبناء المشروع الوطني الديمقراطي.
يصوّر الإعلام الرسمي ما يحصل في السويداء على أنّه حرب بين طرفين
*لنبدأ الحوار بالأحداث الأليمة التي حدثت في مدينة السويداء وريفها، لماذا حصل ما حصل؟ وهل صحيح بحسب الإعلام الحكومي أن ثمة حرباً بين قوات الدولة، ومجموعات خارجة عن القانون؟ وهل ثمّة حلول يمكن أن تلجأ إليها السلطة لتحقيق تفاهمات معينة؟
**السويداء اليوم محافظة منكوبة؛ فيها أكثر من 28 قرية دُمّرت وحُرِقت بيوتها بعد أن نهبتها قوّات سلطة الأمر الواقع، وقواتها الرديفة من أبناء العشائر، وبعض مقاتلي التنظيمات الإرهابية، وهناك ثلاث قرى دُمِّرت جزئيًّا، إضافة إلى أحياء من مدينة السويداء. ووثّق ناشطون مقتل ما يزيد على 1267 ضحية حتى الآن، وما زال البحث جاريًا عن الجثث والمفقودين، وهو ما يرشّح هذه الأعداد للازدياد. معظم الضحايا هم من المدنيين، وأغلبهم تمت تصفيتهم ميدانيًّا؛ إما بإطلاق النار عليهم أو ذبحهم بأدوات حادة، وهم في بيوتهم. جميع أرزاق الناس التي استطاع المهاجمون حملها معهم، في القرى التي ذكرتها آنفًا، نُهبت، وعفّشت. وتعاني السويداء من حصار خانق من دون ماء ولا كهرباء ولا اتصالات أرضية ولا إنترنت، وبقيت لأيام من دون مواد غذائية ومواد طبية إلى أن أدخلت قوافل الهلال الأحمر المساعدات التي لا تغطي إلّا حاجات نسبة بسيطة من أبناء المحافظة.
وفي هذه الأثناء يصوّر الإعلام الرسمي ما يحصل في السويداء على أنّه حرب بين طرفين؛ قوات الدولة من جهة، ومجموعات خارجة عن القانون من جهة أخرى، مستخدمًا بروباغندا إعلامية شعبوية تعتمد على تزوير الحقائق والتحريض المُمنهج لتحشيد أكبر قدر من المقاتلين وزجّهم في معارك السويداء، خطاب قائم على الشيطنة والتخوين والتهويش وبعض الأحيان يمرّر إشارات طائفية مبطّنة.
لكن حقيقة ما حدث في محافظة السويداء هو أن سلطة الأمر الواقع أرادت أن تُخضِع المحافظة بالقوة والعنف المفرط لسيطرتها، ولاسيّما أن قسمًا وازنًا من سياسييها ومثقفيها أصروا على مواقفهم منذ ما قبل صفقة خروج الأسد، والتي تجلّت في انتفاضة السويداء التي استمرت أكثر من سنة ونصف السنة، ومفادها: أنه لا حلّ في سوريا إلا من بوابة الديمقراطية والعلمانية والمواطنة ومبادئ دولة القانون والمشاركة السياسية. وقد استمرَّ الخط الوطني الديمقراطي بعد وصول هيئة تحرير الشام (النصرة سابقًا) إلى السلطة بطرح هذه المطالب، إلّا أن أحمد الشرع ردّ بتعيين نفسه رئيسًا للسلطة الانتقالية عبر اجتماع فصائلي، معظم الفصائل التي شاركت فيه متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة تصل أحيانًا إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تحت عنوان: «من يحرّر يقرّر»؛ هذا العنوان الذي استفزّ معظم الشعب السوري الذي ضحّى بالغالي ليصل إلى هذه اللحظة التاريخية والمفصلية في تاريخه، كما ضرب تبنّي هذا العنوان بعرض الحائط مطالب الديمقراطيين بدولة ديمقراطية تعددية لكل أبنائها.
وكانت السلطة قد عقدت مؤتمرَ حوار وطني كان، في أحسن الأحوال، مشهدًا تمثيليًّا هزيلًا من حيث إرسال الدعوات وانتقاء المدعوين، والتمثيل، وزمن المؤتمر وتنظيم مداخلاته، ومخرجاته. حيث إنه جاء أدنى بكثير من طموح شعب ضحّى بالغالي والنفيس ليقطع مع الاستبداد والفساد والمحسوبيات والإجرام وثقافة العنف والتطرّف واحتكار الفضاء العام. ومن ثمّ استكملت سلطة الأمر الواقع غطرستها وصلفها وبرنامج قهرها للمجتمع السوري عبر إصدارها إعلانًا دستوريًّا يمنح رئيس السلطة الانتقالية صلاحيات السلطات الثلاث ويجعل منه ديكتاتورًا بحصانة دستوريّة، كما كان سلفه المخلوع، لكن هذه المرّة بلغة أكثر فجاجة.
هذا إضافة إلى قهرها للمجتمع المدني عبر تعيين أعضاء مجالس النقابات من فوق، وضرب مبدأ الانتخاب أو حتى التوافق بين أعضاء مجالس النقابات والفروع، مرورًا بتعيين المقاتلين الأجانب في مراكز حساسة في الدولة والقوات المسلحة، وليس انتهاءً برفضها المشاركة مع التيار الوطني الديمقراطي والإصرار على تمثيل المحافظات والتعاطي معها من بوابة رجال الدين والزعامات التقليدية، وأحيانًا مع شخصيات كانت مرتبطة بسلطة الأسد وإيران، مثل الشيخ «المرسومي» وغيره.
كل هذا راكم عند المشتغلين بالشأن العام في السويداء من سياسيين وناشطي مجتمع مدني، شعورًا بالقهر والخذلان واللاجدوى. بينما كان المجتمع الأهلي في السويداء ينزاح بالتدريج باتجاه فقدان الثقة بسلطة الأمر الواقع في دمشق؛ ابتداءً من المجازر في الساحل السوري، مرورًا بالتجييش على طلاب السويداء واستهدافهم بالخطاب الطائفي وتهديدهم بالذبح والقتل، وصولًا إلى مجازر صحنايا وجرمانا؛ وهما مدينتان في ريف دمشق بأغلبية درزية، وليس انتهاءً بالاعتداءات على أهالي السويداء أثناء عبورهم على طريق الشام، ولاسيما حاجز المسميّة سيّئ السمعة، الذي وضعت السلطة فيه عناصر من أبناء العشائر يتخللهم أشخاص كانوا من المرتبطين بالأمن العسكري والفرقة الرابعة سابقًا، لتستفز بذلك أهالي السويداء، وتؤجّج الصراع بين بدو ودروز المحافظة كمنفذ لعبورها إلى المحافظة لإخضاعها وإرهاب سكانها بحجّة قدومها لفكّ النّزاع بين البدو والدروز بعناصر رسمية تحملُ شفراتِ الحلاقة والمقصّات لإهانة الناس عبر حلق شواربهم كسابقة في تاريخ الجيوش والقوات المسلحة.
كلّ هذا تكامل مع ما يختزنه المجتمع الأهلي في السويداء في ذاكرته الجمعيّة من صور إرهابية بشعة لـ "جبهة النصرة"؛ فهو لم ينسَ بعد هجوم "النصرة" على القرى الغربية من محافظة السويداء، كما لم ينسَ ما فعلته "النصرة" أيضًا بعناصر "كتيبة الشهيد خلدون زين الدين" في درعا. ولا تزال صورة المجزرة التي نفّذتها "جبهة النصرة" في قرية "قلب لوزة" الدرزية في جبل السمّاق في محافظة إدلب عام 2015، حاضرةً في أذهان الدروز إلى اليوم.
منطقيًّا، هناك دائمًا حلولٌ سياسية، كان من الممكن للسلطة أن تلجأ إليها لحقن الدماء، ولتحقيق تفاهمات، إلّا أنها اختارت من الحلول ما يناسب طبيعتها وتاريخها الدموي، وهي الآن في مأزق كبير، إذ إنه على الرغم من زجّها لمقاتليها في المعركة، واستعانتها ببعض أبناء العشائر من كلِّ المحافظات السورية، ومنهم مَنْ كان يعملُ سابقًا مع النظام وإيران، وبعضهم كان مع «داعش». كما وثّقنا في السويداء وجود مقاتلين أجانب من جنسيات مختلفة، كانت خسائرها الفادحة على الصعيد العسكري وعلى صعيد سمعتها المحلية والدولية، ولم تستطع إلى الآن تحقيق أهدافها؛ حيث فشلت في إخضاع محافظة السويداء وسحب سلاحها.
رعى نظام الأسدين (الأب والابن) الحساسيات والتناقضات بين مكوّنات الشعب السوري
*الوضع السوري في حالة مزرية وموجعة، هل تتّجه سوريا إلى التقسيم برأيك؟
**عندما هتف الشعب السوري عند انطلاق ثورته: «واحد، واحد، واحد الشعب السوري واحد»، كان يحرّكه الخوف من التفرقة والحرب الأهلية والفوضى التي كان يلوّح فيها النظام السابق ليهدّد فيها الشعب السوري، ويهدّد فيها العالم على أنّها بديله إذا ما سقط أو رحل؛ حيث سعى نظام الأسدين (الأب والابن) لرعاية الحساسيات والتناقضات والخلافات بين مكوّنات الشعب السوري وإدارتها، وفعّل الثنائيات الضديّة التي فُخّخ المجتمع السوري فيها (بدو/ دروز، سنة/ شيعة، كورد/ عرب، ريف/ مدينة وغيرها...)، ليتبيّن بعد فترة قصيرة من عمر الثورة السورية بعد أن تحوّلت إلى حرب أهلية، أن الشعب السوري ليس واحدًا، وأن ما كان يحمله الشعب من شعارات يؤكّد فيها على وحدته ما هي إلّا حلم ومشروع سياسي لشعبٍ عاشَ في ظل الاستبداد كجزر معزولة عن بعضها، يمارس تقيّة سياسية، كمعادل موضوعي لتقيّة دينية واجتماعية بقيت في حدود التعامل السطحي مع الآخر/ مع الشريك في الوطن.
بعد رحيل سلطة الأسد عن سدّة الحكم في سوريا، وعلى الرغم من إرثها الثقيل والكارثي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، انتعشَ الأملُ عند السوريين في أن تكون سوريا حرة ديمقراطية لكل أبنائها بشعب متنوّع تحت حكم دولة تدير تنوّعه واختلافاته، لا دولة تفعّل حساسياته، وتشعل حروبه.
إلّا أنّ استلام سلطة استبدادية للحكم من جديد، بدّد هذا الحلم عند السوريين، ولا سيما أنّ تاريخها حافل بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهي سلطة بأيديولوجيا سلفية جهادية، مارست إرهابها في الشمال السوري، وضربت هناك الجيش الحر والفصائل التي تنافست معها، كما مارسته في درعا وفي غوطتي دمشق، وارتكبت العديد من المجازر. ومنذ استلام «هيئة تحرير الشام» السلطة في سوريا، كانت آلةَ قتل متنقّلةً من مجازر الساحل إلى مجازر "صحنايا" في ريف دمشق إلى مجازر السويداء، وما تبعها من تدليس للحقائق وإنكار للمجازر؛ ولاسيما حين حاولت تقديمَ تلك المجازر على أنها حوادث وانتهاكات قامت بها مجموعات، أو أفراد منفلتة، مع العلم أنها سياسة مُمَنهجة؛ بدلالة تكرارها بالآليات نفسها، وبعض الوجوه التي ظهرت وهي تشارك في القتل المتنقل، موثقة بالصوت والصورة. كل هذا، وغيره الكثير، يدلّل على أننا إزاء سلطة آتية بوظيفة استكمال ما عمل عليه بشار الأسد لتقسيم السوريين ديموغرافيًّا ونفسيًّا، والذي قد يكون طريقًا تمهيديًّا لتغيرات قد تطرأ على الجغرافيا أيضًا بتوافقات بين دول الوصايات والحمايات في سوريا.
وجود سلطة استبدادية لا يمكن لها أن تكون صمّامَ أمان الوحدة الوطنية.
*ثمّة مشكلةٌ سوريةٌ واضحةٌ في الساحل السوري، وفي الجنوب السوري، وثمة مشكلة كردية، هل تتوقع أن الأوان قد فات لتقديم حلول شافية لكل ما يعصف بسوريا؟ ألا ترى أن نظام الحكم الحالي في سوريا مكون من طائفة واحدة تقريباً؟ وبرأيك إلى أين تتجه سوريا؟
**كما ذكرت آنفًا أن وجود سلطة استبدادية متطرّفة، تحمل تاريخًا إجراميًّا يمتد إلى الحاضر، ويهدّد المستقبل، لا يمكن لها بأي شكل من الأشكال أن تكون صمّامَ أمان الوحدة الوطنية، أو حاملًا لمشروع صياغة الهوية السورية المتنوعة وإدارة هذا التنوع فيها. إذ إنّ هذه السلطة تختزن في طبيعتها وتركيبتها ومنهجيّتها وتاريخها وعلاقاتها، بوادرَ التفرقة والتقسيم والتناحر؛ فهي سلطة سلفية جهادية، طبيعتها لا تسمح لها بقبول التنوُّع السوري الكبير، كما أنها تحاول أن تحتكر الصوت السني في سوريا مدّعية تمثيله. وهذا ليس بصحيح، لا من حيث عقيدتها التي تكفّر معظم السنة في سوريا بمذاهبهم الأربعة، ولا من حيث طبيعتها التي لا تتناسب مع الإسلام المعتدل المنفتح، ولا سيّما في مراكز المدن الكبيرة كدمشق وحلب.
ولكن رغم السواد الذي يلفّ المشهد الآن في سوريا فإنّ الفضاء العام غالبًا لا يخلو من الحلول والمبادرات السياسية والأهلية؛ حيث هناك مبادرات فردية، وأخرى تحاول التشبيك لتكون جماعيّة، تؤكد على وحدة سوريا المتنوّعة بنظام لا مركزي، وترفض التقسيم، وتطرح صيغة الحل من بوابة الديمقراطية والمواطنة والتشاركية والعدالة الانتقالية لتقطع الطريق على امتداد وتجذير الحرب الأهلية التي قد تمهّد لرسم حدود سيطرة ونفوذ بين أطراف متناحرة.
إلّا أنّ وضع هذه الأطروحات والمبادرات حيّز التنفيذ، يتوقّف الآن على مدى قابلية السلطة وطبيعتها وقدرتها على التفاعل مع هذه المبادرات، وعلى طبيعة الاتفاقات الدولية والإقليمية التي جاءت بالسلطة نفسها إلى سدة الحكم، وعلى مدى قدرة الشعب السوري على التوافق على مشروع الحل في سوريا تحت عنوانٍ عريضٍ: ديمقراطية مواطنة عدالة انتقالية. وعليه فإن تعقيدات الواقع السوري اليوم تفتحه على عدة خيارات؛ أشدّها سوءًا هو استمرار الحرب الأهلية وامتدادها، ورسم حدود سيطرة ونفوذ بين جماعات وأطراف متناحرة، وأفضلها هو تعاقد الشعب السوري على مشروع وطني ديمقراطي علماني لا مركزي يحمي البلد من التفتيت والتقسيم.
أعوّل على دور المجتمع المدني في المشاركة الفاعلة بصياغة المشروع الوطني الديمقراطي
*هل ترى أنه من الممكن أن تؤدّي منظمات المجتمع المدني، والهيئات البعيدة عن التجييش الطائفي على مختلف المنابر والمنصات دوراً في إعادة التهدئة إلى سوريا بعد حرب طاحنة دامت أربع عشرة سنة، وبوادر حرب أهلية في عهد ما بعد الأسد ونظام البعث المنهار؟
**على مدى ما يقارب خمسين عامًا انصرمت في سوريا، كان المجتمع المدني مقيّدًا ومحجّمًا؛ حيث كانت النقابات، على سبيل المثال، تبدو وكأنّها أفرعٌ أمنيةٌ من حيث آلية عملها وعلاقتها بِمَن تمثلهم وطبيعة القائمين عليها وطريقة تعيينهم. وبدلًا من أن تكون هذه النقابات مُمثِّلةً لأعضائها لدى السلطة لتدافع عن حقوقهم وتسعى لتحصيلها، كانت مُمثِّلةً للسلطة لدى أعضائها، شاهرةً سيفها عليهم. وبعد سيطرة سلطة الأمر الواقع على سوريا، لم يبدُ هناك أي تغيير في منهجية التعاطي السابقة مع مؤسسات المجتمع المدني؛ حيث شاهدنا كيف تمّ تعيين أعضاء مجالس النقابات وفروعها بشكل مركزي مع كثير من المحسوبيات وشراء الولاءات من دون انتخابات أو حتى توافقات أو استشارات. وهو ما يؤشّر على فساد المنهج؛ حيث إن هذه السلوكيات تجعل من مؤسسات المجتمع المدني قوى رديفة للسلطة لإخضاع الناس والتحكّم بخياراتهم ومصيرهم، بدلًا من أن تكون رافعة لأعضائها في مواجهة تغوّل السلطة الاستبدادية. إلّا أننا بدأنا نشهد استقالات لأفرع النقابات المُعينة مركزيًّا في السويداء، ومنها فرعا نقابتي المحامين والمهندسين احتجاجًا على مجازر السويداء والأحداث الدامية التي جرت فيها...
نعم، أعوّل على دور المجتمع المدني في المشاركة الفاعلة بصياغة المشروع الوطني الديمقراطي، وتنفيذه بالشراكة مع السياسيين الوطنيين الديمقراطيين والمجتمع الأهلي الذي قد يكون المجتمع المدني رافعة له لتخليصه بالتدريج ممّا يختزن من طائفية وعشائرية وعنف وخطاب كراهية، وينمي فيه القيم الإيجابية ويشتغل عليها كي تصب في مصلحة المشروع الوطني الديمقراطي.
«الطغاة يعبّدون الطريق أمام الغزاة»
*قبل أيام، وبرعاية أميركية التقى وزير الخارجية السوري مع وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي، كيف تقرأ هذا الخبر؟
في الحقيقة، حتى الآن ليس لدينا معلومات دقيقة عن مخرجات المحادثات الجارية بين سلطة الشرع وإسرائيل في الإمارات وفي كزاخستان، ومؤخّرًا في فرنسا بعد الهجوم على السويداء، وعلى ماذا اتفق الطرفان. والتكتم عن مجريات هذه المحادثات حتى اللحظة وعدم الشفافية من سلطة الأمر الواقع، يضعنا في موقع المشكّك، ومن ثمّة يحق لنا أن نطرح أسئلة من قبيل: هل أعطت إسرائيل "الجولاني" الضوء الأخضر لدخول السويداء؟ وإن كان الجواب بنعم، ما هي حجم تلك السماحية؟ أم هل ورّطت إسرائيل "الجولاني" بهذه المغامرة، ولاسيما أنها تعرف طبيعة القوى المهاجمة ومدى دمويتها؟ أم هل خطا "الجولاني" خطوات زائدة عمّا اتُّفِق عليه، فضربته إسرائيل ضربات تحذيرية، تصل لأن تكون تأديبية؟
في كلّ الأحوال، فإن "الطغاة يعبّدون الطريق أمام الغزاة"، والاحتلال الإسرائيلي كما الاحتلال التركي كما الاحتلال الروسي، تدخّل لأننا بُلينا بالاستبداد والطغيان، وما زال يتدخل لأننا ما زلنا قابعين تحت نيره، مع اختلاف الوجوه والأسماء. وعليه، فإنّي أحمّل السلطة بشكل أساسي مسؤولية ونتائج تدخلات الاحتلالات في سوريا لرفضها مبادئ المشاركة السياسية والديمقراطية والمواطنة والعدالة الانتقالية التي هي صمّام السلم الأهلي في سوريا؛ فلا يمكن أن نتخلص من الاحتلال إلّا حين نكون مواطنين أحرارًا أسيادًا في دولتنا، نشارك فيها، ومن خلالها، بتقرير مصيرنا. وبالنسبة إلى الحجة الإسرائيليّة في التدخل لحماية الدروز فهي واهية، ولا سيّما أنها سمحت لـ"الجولاني" وقواته الرديفة بقتل أكثر من 1267 ضحية، حتى كتابة هذه السطور، أغلبها من المدنيين العزّل، وجرح المئات، وحرق 32 قرية، وتدمير وحرق أحياء من المدينة، وأسر العشرات، وحصار خانق ابتداء من 15 تموز/ يوليو. كل هذا يدلل على أن إسرائيل لا تستميت لحماية الدروز الذين نُكِبوا؛ حيث أُعلِنَت محافظة السويداء منطقة منكوبة، بل هي لديها مخططاتها التي تعرفها جيدًا سلطة الجولاني وتراعيها أكثر من أبناء السويداء الذين قتلتهم وحاصرتهم بهذه الحجة.
نظام الحكم اللامركزي الديمقراطي الدستوري يناسب سوريا
*ثمّة أخبار عن إعلان بيان «ثوري صادر من أبناء السويداء حول تأسيس الإدارة الذاتية لإقليم جبل العرب» هل يمكن أن تنجح مثل هذه التجربة؟ وهناك إدارة ذاتية في شمال شرق سوريا، كيف تقرأ مشاريع كهذه؟
**ليس هناك إلى الآن أي إعلان من جهة سياسيّة أو اجتماعية مسؤولة عن تأسيس إدارة ذاتية في محافظة السويداء، هناك بيانات مجهولة المصدر والغاية فحسب. لكن قد يكون من المفيد لسوريا المتنوّعة، وذات الواقع المعقّد والمركّب، أن يفكّر أبناؤها بحكم لا مركزي ديمقراطي دستوري، يصون التنوع، وينظم آليات الخلافات، ويديرها لتصبّ في سيادة سوريا وحريتها وكرامة أبنائها.
من المفيد إطلاق حوار بين السوريين كلهم عن ماهية المشتركات
*في سوريا، ثمّة قضيةٌ كرديةٌ متجذّرة في المكان، إذا تمسّك الكرد والحركة السياسية الكردية بمطلب الفيدرالية أو أي شكل يحفظ لهم خصوصيتهم القومية، هل تتوقع أن السوريين سيقبلون بهذا الطرح؟
**الكرد جزءٌ أصيلٌ من سوريا، والاعتراف بحقوقهم هو أساس لكل طرح سياسي يطرح الآن أو مستقبلًا، فلا مجال للتفاوض على الحقوق المشروعة والتي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان وجميع المواثيق الدولية، وهي حقوق فوق التفاوض والمساومة. وأعتقد أنه من المفيد جدًّا إطلاق حوار بين السوريين كلهم عن ماهية المشتركات التي تكون دعامة لبناء المشروع الوطني الديمقراطي، وعن المعوّقات التي منها وجود سلطات الأمر الواقع التي تحتكر مجموعات قومية أو دينية، وتخطف اسمهم، وتقترف الجرائم باسمهم مدّعية تمثيلهم. وقد يحدد السوريون للبدء في ذلك خريطة طريق، تبدأ بإجبار سلطات الأمر الواقع، بكل الطرق السلمية المتاحة، على إشراك من يقبعون تحت سلطتهم بالقرار وصنع السياسات، والانفتاح على كل الأحزاب والتيارات وترتيب البيت الداخلي تمهيدًا للحوار الوطني. هذا إضافة إلى الإصرار على مطالبة سلطات الأمر الواقع بالاعتراف بانتهاكاتها والشروع بملف المحاسبة، تمهيدًا لمواجهة استحقاق العدالة الانتقالية الضروري لتحقيق السلم الأهلي في سوريا. هذا علاوة على تحديد السوريين لعلاقتهم مع المركز ونمط الحكم الذي يريدونه، وحدود مشاريعهم جغرافيًّا وديموغرافيًّا، وموقفهم من المقاتلين الأجانب والمشاريع السياسية العابرة للحدود، أو تلك التي ما دون الدولة. عندها، وعندها فحسب، يمكن للسوريين صياغة اجتماعهم بعد تحديد ما الذي يريدونه، ومعرفة ماذا يريدون من الآخر/ الشريك في الوطن، ويعترفون بمشكلاتهم كخطوة أولى في طريق حلّ هذا الاستعصاء المقيم منذ ما قبل انطلاق الثورة السورية عام 2011 التي انطلقت لتفككه أصلًا.
وعندما يصل السوريون إلى هذه المرحلة المهمة من المكاشفة والشفافية والوضوح، ويتعاقدُ الجميعُ على أهمية مراعاة مصالح الجميع والعمل على تحقيقها كمصلحة وطنية، نكون قد حققنا خطواتٍ على طريق السلم الأهلي، وانتقلنا إلى مرحلة صياغة مشروع تأسيس الدولة على مبدأ المواطنة والديمقراطية، دولة لكلّ السوريين، دولة القانون والحريات.
أنجز «مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية» خلال فترة نشاطه أكثر من عشرين كتابًا ودراسة وبحثًا وتقريرًا
* كباحث من مؤسّسي «مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية»، لو أمكن إعطاء نبذة تعريفية عن هذا المركز لقراء صحيفتنا «كوردستان».
**مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية هو جمعية مدنية غير ربحيّة، تأسس عام 2013 في فرنسا، وعمل المركز منذ تأسيسه على رصد وتحليل الظواهر التي نشأت خلال الثورة السورية، وأوضاع المعارضة، وإستراتيجية سلطة الأسد في مواجهة الثورة السورية، وأثر الحرب على بنى المجتمع. إضافة إلى الاهتمام بإحصاء الضحايا وجمع البيانات وفلترتها وفق مناهج البحث العلمي بهدف إنشاء قاعدة بيانات تكون مرجعًا لكل من يرغب في دراسة الوضع السوري.
وتمكّن «مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية» خلال فترة نشاطه من إنجاز أكثر من عشرين كتابًا ودراسة وبحثًا وتقريرًا، ومنها كتاب "اللاجئون الفلسطينيون في المحنة السورية"، وكتاب "إستراتيجية سلطة الأسد في مواجهة الثورة السورية"، وكتاب "سوريا: عصر أمراء الحرب وعودة الوصايات- (1) الميليشيا الشيعية". كما نظّم المركز عدة ورشات عمل سياسية للنقاش حول قضايا متعلقة بالديمقراطية والتحوّل السياسي في سوريا، شارك فيها سياسيون ومثقفون وكتاب وباحثون قدموا أوراقًا خلفية، كما تمّ تفريغ ورشات العمل تلك، وأُصدِرت كلّها مكتوبة مع أوراقها الخلفية.
ربيع الشريطي – بروفايل:
باحث من مؤسّسي "مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية"، من مواليد عام 1979، له عدّة كتب ودراسات وتقارير أنجزها مع فريق عمل أو بشكل منفرد، ونشر أغلبها باسم «همام الخطيب» في «مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية» و«المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية»، وغيرها من المراكز والصحف والمنابر الإعلامية. كما عمل مراسلًا في محافظة السويداء لصحيفة "المدن الإلكترونية"، ومحرّرًا في مجلة "أصوات" التي كانت تُعنى باللاجئين والنازحين السوريين.
ومن أعماله التي أنجزها مع فريق عمل: كتاب التوظيف في الصراعات الضدية (1) "سلطة الأسد" و"تنظيم الدولة الإسلامية" في محافظة السويداء، وكتاب التطوير العقاري، وهو الدراسة الثانية من سلسلة: "جريمة بعنوان إعادة الإعمار".