نهاية التاريخ
محمد رجب رشيد
لِكلُّ بداية نهاية، مُسَلّمة من المُسلّمات تشمل كافة أشكال الحياة على الأرض التي نحيا عليها، بما في ذلك الأرض نفسها والكون الذي لا حدود له. أغلب النهايات ستكون متباينةً من حيث التوقيت، والبعض منها ستكون متزامنةً، كنهاية التاريخ التي لن تكون إلّا مع نهاية الإنسان والتي بدورها لن تكون إلّا مع نهاية العالم، وهي بدورها لن تكون إلّا مع نهاية الكون يوم القيامة. إلّا أنّ فرانسيس فوكوياما السياسي الأمريكي (من أصول يابانية) كان له رأي مُختلف، إذْ فَصَلَ بين نهاية التاريخ ونهاية العالم رغم الارتباط الوثيق بينهما، وذلك من خلال نشر مقالة بعنوان (نهاية العالم) في صحيفة ناشيونال انتريست عام ١٩٨٩ عندما كان الاتحاد السوفييتي على وشك الانهيار، خلُص فيها إلى بلوغ الديمقراطية الليبرالية وقيّمها -الحرية الفردية، حقوق الإنسان، المساواة، العولمة، النمو الإقتصادي، ... إلخ- ذروة التطوُّر الفِكري للإنسان، وعدم وجود بديل أفضل يحظى بإجماع العالم. وأضاف نهاية التاريخ لا تعني نهاية العالم.
من الجدير بالذِكر أنّ مفهوم نهاية التاريخ لم يُولد مع أطروحة فوكوياما، بل تعود جذوره إلى الفلاسفة القدماء أمثال زرداشت، هيغل، ماركس. اعتبر زرادشت الصراع بين الخير والشر أزلياً وأبدياً، ونهاية التاريخ تكون بانتصار الخير على الشر.
أمّا هيغل فقد اعتبر حركة الفِكر في صعود دائم إلى اللحظة المطلقة التي تبرُز فيها الدولة القوية المطلقة لتعلن نهاية التاريخ، بينما ماركس افترض نهاية التاريخ مع عودة المشاعيّة التي بدأ بها التاريخ دون صراع طبقي، والمقصود بالمشاعية هنا الشيوعية التي ستَسود بعد الاشتراكية والتي بِدورها ستُقام على أنقاض الرأسمالية من وُجِهة نظره.
بعد انهيار الإتحاد السوفييتي ومن باب الشَماتة والشُهرة توّسع فوكوياما في مقالته وحوّلها إلى كتاب بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) ليضع العالم أمام بديلين لا ثالث لهما، إمّا أنظمة بربرية غير شرعية تُهيمن فيها سلطة الدولة على الأفراد، وتعود بالمجتمع إلى الماضي السحيق من خلال شعارات برّاقة من قبيل إحياء أمجاد الماضي، تغليب المصلحة القومية على مصلحة الأفراد، محاربة الأخطار الخارجية المُحدِقة بالوطن. أو نظام ديمقراطي ليبرالي حضاري غير بربري كأفضل نموذج توصّل إليه فِكر الإنسان، يملك بالوقت نفسه الشرعية ورصيدًا من الرِضى الشعبي.
مِمّا جاء في كتاب فوكوياما: الإنسان الأخير هو إنسان ما بعد الحداثة، وما بعد الإنسانية، لن يكون لديه أسباب للقتال من أجلها، والشعوب التي عرِفت الديمقراطية لن تتخلّى عنها ولن تعود إلى الاستبداد مهما كان الثمن.
أثار الكتاب جدلًا كبيرًا في الأوساط السياسية والفلسفية، خاصةً بعد حرب البلقان عام ١٩٩٢م وتفكُّك يوغسلافيا على مراحل إلى سبع دول. تنوّعت انطباعات النُقّاد حول محتواه، المُحتفون رَأَوْا أنَّ فوكوياما لم يكتفِ بتأكيد انتصار الليبرالية بل قدّم مزايا ومكاسب ما بعد النصر، بينما المنتقدون رفضوا أطروحته بالمُطلق، لأنّ التسليم بها يعني أنّ نهاية التاريخ كان من المفروض أن تكون منذ آلاف السنين عندما سقطت إمبراطوريات على يد إمبراطوريات أخرى. والبعض اعتبر الأطروحة مجرّد انفعِال لحظي لانتصار أمريكا في الحرب الباردة، ولا يمكن وصف انتصار قوة عظمى على قوة عظمى أخرى بِنهاية التاريخ، كُل الذي حصل هو مجرّد انتقال الصراع بين الرأسمالية والإشتراكية إلى صراع حضاري آخر حاضنته الأساسية الثقافة والدين، ورأى فيها البعض الآخر دعوة صريحة لنشر الديمقراطية في العالم بكافة السُبل المُتاحة بما في ذلك القوة العسكرية. وما بين الرأيين مجالٌ واسعٌ من الآراء والمراجعات. تراجَع فوكوياما بخجل عن أُطروحته (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) في كتابه الذي صدر مؤخّراً بعنوان (الهوية).
أُضيف إلى ما سبق:
إعلان نهاية التاريخ قبل نهاية العالم هو إهانة لعقل الإنسان، لأنّ مقدِرته على الإبداع في أي مجال لا حدود لها. والأصل في كل ما يخصُّ الجماعات الإنسانية هو التعدّدية والتغيير الدائم، بينما الأُحادية والثبات يختصُّ بهما الله وحده دون غيره، بمعنى انفراد دولة واحدة بالهيمنة على العالم لا بدّ أن يُحدِث خلل ما في موازين القوى، ويهدِّد السِلم والأمن العالميين للخطر، وهذا ما حدث خلال العقود الثلاثة الماضية. هذه من ناحية ومن ناحية أخرى فإنّ أنظمة الحكم الشمولية تحمل بذور انهيارها في داخلها، وإن نجحت تكون لفترة مؤقتة، ومن المؤكد أنّ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ودول المعسكر الاشتراكي كان لهذا السبب، فالانهيار حدث من الداخل دون أي تدُّخل خارجي مباشر.
إنّ حركة التاريخ كالزمن لا يمكن إيقافها طالما الإنسان باقٍ على سطح الأرض، وزعامة العالم غير محصورة بدولة معينة إلى الأبد، بل تنتقل من مكان إلى آخر ليس من تلقاء نفسها وإنّما بالإرادة والعمل، فالعالم في تغيير دائم، ولا يوجد شيء ثابت وقطعي، ولا يمكن اختصار العالم بأمريكا والغرب، كم من إمبراطورياتٍ عصفت بها الأزمات فيما مضى فانهارت، وأصبحت من التاريخ دون أن تقف حركة التاريخ، ولا ضمان لعدم ظهور أزمات تنخُر في الديمقراطية الليبرالية، وتؤدي إلى انهيارها.