عندما يتحوّل المواطن إلى آراجوز

عندما يتحوّل المواطن إلى آراجوز

صالح محمود

يمرّ الإنسانُ خلال مسيرة حياته بمنعطفات تبعده عن جوهره، وتحوّله إلى كائن آخر مختلف يتصرف بطريقة غريبة ومختلفة، والنفس البشرية تتعرّى، وتتكشف أثناء الحرب التي تُعدّ أقسى اختبار لقيم وأخلاق البشر .
فالحرب ترفع الضوابط الأخلاقية السابقة للناس، وتأتي بضوابط ومعايير أخرى جديدة ومختلفة، وتُولّد سلوكياتٍ وطباعاً جديدة لدى الناس لم تكن موجودة من قبل، وتُحدث شروخاً في جسم المجتمع الواحد، وتُعرّض أفراده إلى اهتزازات وزلازل تُخرجهم عن سياقهم العام والطبيعي، وترمي بهم إلى عوالم غريبة.
من المؤكد إن الحرب متاهة ورحلة ضياع، يبحث فيها جميع الناس عن الخلاص والنجاة، وتطفو مشاعر الأنانية وحب الذات عندهم، ومن الطبيعي أن ترى من يتمسّك بذاته خشية الانزلاق والاختفاء.
ولاندري مدى صحة وجهة نظر هيغل القائلة أنّ " الحروب ضرورية في حياة الدول والشعوب لأن الدول يستيقظ وعيها في حالة الحرب "، ولكن من المؤكد إن الحرب في هذه البلاد - رغم استيقاظ الوعي - قد خلّفت خراباً هائلاً يحتاج إلى سنوات عديدة لإزالته، ومن مظاهر هذا الخراب: الفساد المستشري في كل مكان، المجاعة، الغلاء الفاحش، شحّ المواد الغذائية، شحّ مواد الطاقة وقلة فرص العمل... الخ، لقد دفعت هذه المظاهرُ المواطنَ إلى الركض واللهاث ليؤمن حاجاته دون أن يمتلك القدرة على تلبيتها، وأصبح الإنسان في مواجهة هذه الظروف القاسية والسيئة كائناً ضعيفاً هشاً يعاني الأمرّين، وأمام هذا المشهد المؤلم والواقع المرير فإنّ الآلاف من الأطفال قد لقَوْا مصيرهم السيّئ، وحُرموا من التعليم والتربية والصحة، وازدادت حالات الطلاق ونسبة العنوسة عند الإناث، وتقلصت مساحة الأمل وفقد الناس الثقة بالمستقبل، وكثُرتْ حالات الفرار والهجرة من هذه البلاد واتسعت رقعة الفساد.
إنّ الفقر وضيق الحال يزيد المشهد قتامةً، ويولّد أشياء قذرة تؤدي إلى انحراف الناس نحو مزالق خطيرة وتدفع بهم نحو الهاوية، فما مصير مجتمع، أطفاله مشردون ونساؤه مطلقات وشبابه مهجرون وهاربون ؟؟
في زمن الحروب يكثر النفاق والكذب، ويكثر اللصوص وتكثر الولاءات والتبعيات والمحسوبيات، ويتحول البشر إلى آراجوزات ودمى تتحرك وفق منطق جديد، وتظهر كل الرغبات السيئة التي كان يكبتها الناس خلال فترة السلم، فالحرب اللعينة ترافقت مع مآزق ومتاهات ووضعت الناس في حيرة من أمرهم، وبدَوْا كآراجوزات، آراجوز استمات من أجل الرحيل والخروج ورحل فعلاً، وقد يكون ناجياً، هكذا يبدو للوهلة الأولى ولا ندري ما يحمل له المستقبل والأيام ، وتنتهي آراجوزيته، ويتحرر وعيه إلى حدٍ ما عندما يحصل على الإقامة في أي بلد أجنبي، فيصبح بذلك طوق النجاة واليد الممدودة لأولئك الذين في الداخل.
أما في الداخل فهناك الآراجوز الكارثي الذي يكون الشغل الشاغل له هو التشبيح على الآخرين والتطفل عليهم وعلى أرزاقهم وهذا الآراجوز هو الأخطر على الإطلاق وهو المِعْول الذي يهدّ أركان المجتمع وهو يمثل اجهزة الدولة القمعية واليد الضاربة لها.
كذلك ثمّة آراجوز بقي بحكم الظروف أو قرر البقاء، فنجده يلاقي أقسى أنواع القهر والاستغلال وكل ويلات الحرب ومرحلة ما بعد الحرب تقع على عاتقه وكاهله فهو الآراجوز الأكثر معاناة والأكثر بؤساً أمام الكم الهائل من متطلبات الحياة، فهو يعتمد على الذي خرج وهاجر ليقضي حوائجه ولولا العون الذي يتلقاه من الخارج لانتهى مصيره إلى الهلاك، وآراجوزات الداخل كلها تبدو مسلوبة الإرادة والحرية، وتتصرف نتيجة ضغوط ودوافع تتعلق بحب البقاء و النجاة والخلاص وبأي ثمن كان، والإنسان يكون في أسوأ حالاته عندما يكون مسلوب الإرادة .
الإنسان على هذه البقعة الصغيرة من الأرض تقاذفته قوى غريبة حولته الى وحش يفترس أخاه الإنسان .
لقد تحولت هذه البلاد إلى مسرح لآراجوزات ضائعة وتائهة أسهمت إلى حدٍّ كبير في جعل البلاد جحيماً لايطاق..