موت الإنسانية في رحم المقايضات الدولية

موت الإنسانية في رحم المقايضات الدولية

عزالدين ملا

الصراع حول المصالح موجود منذ فجر التاريخ ولن ينتهي، الخاسر الوحيد هو الشعوب المنكوبة، وما الأزمة السورية إلا واحدة من تلك الصراعات، والتي يتصدر مشهدها العام صراع المصالح بين الدول وتوزيع مناطق النفوذ. الموقع الجغرافي المميز والاستراتيجي لسوريا وغناها بالثروات الباطنية جعل منها فريسة تسيل اللعاب لكل ما هب ودب من الدول الكبرى والاقليمية.
الدول الكبرى تنظر إلى بلدان العالم الثالث نظرة مغارة علي بابا، فقط يدر عليهم ما طاب من النعم والخيرات، ويعملون بكل السبل لإبقاء تلك البلدان في حالة تخلف وفوضى، وبقاء باب المغارة مفتوحة تجلب لهم ما طاب من النعم والخيرات دون عناء. هم لا يستطيعون التدخل بشكل قانوني إلا إذا كان هناك أسباب "ذرائع وأدوات"، هذه الاسباب وجدت في سوريا.
سوريا حُكِمَتْ منذ خمسين عاماً من قبل نظام دكتاتوري مستبد، حكم البلاد بقبضة حديدية، ذاق الشعب السوري خلالها مختلف صنوف الترهيب والترويع والتجويع، كانت سياسة كم الأفواه والحريات وتصهير القوميات السمة الأبرز لسلطة الأسد الإجرامي، إضافة إلى سياسة محاربة لقمة العيش وتجويع المواطن السوري ليبقى خنوعاً لإملاءات الطغمة الحاكمة وإرهابها. فكان هذا سبباً مباشراّ للدول الكبرى بالتدخل تحت ذريعة تخليص الشعب السوري من هذا النظام الدموي والإتيان بنظام ديمقراطي، وذلك من خلال ما كانوا ينادون به من شعارات عن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، فالشعب السوري التواق إلى الحرية والخلاص من العبودية انبهر بتلك الشعارات فكانت صرخة الحرية في عام 2011 ومنذ ذاك التاريخ والشعب السوري تدهورت حالته من سيّئ إلى أسوأ، دفع خلالها الآلاف من الشهداء وتدمير مدن كاملة وتهجير الملايين ضريبة هذه الحرية التي كانت تنادي بها الدول الكبرى والمنظمات العالمية، أما السبب الآخر للتدخل فكانت بوجود أدوات أو حاضنات يتم من خلالهم خلق البلبلة والصراع، فظهرت جماعات وميليشيات تحت مسميات كثيرة، وإدخال آلاف الإرهابيين من مختلف الجنسيات، فعاثوا فيها فساداً وخراباً وتدميراً، كان ضريبة الحرية تدمير البلد.
ها قد مرّ عقد من الزمن وأكثر، وما زالت شعارات الدول الكبرى عن الديمقراطية وحقوق الإنسان تهب بين الفينة والأخرى في سماء النفاق والتخاذل، وما زال النظام الدموي قابع في مكانه ولم يتزحزح قيد أنملة، فقط الشيء الوحيد الذي تغير هو أن الشعب السوري أصبح بين مشرد ومهجر ونازح.
كما وأن هذه الأزمة أظهرت الوجه الحقيقي البشع للمجتمع الدولي تجاه القضايا الإنسانية ومصير الشعوب وحقوقها، هذا الوجه المقنع بالنفاق والمراوغة وتوهيم العالم بشعاراتها الرنانة عن حقوق الإنسان والديمقراطية وحق تقرير المصير. رغم هذا الوضوح في النفاق والكذب، إلا أنها مستمرّة بالتمثيل في سيناريوهات مسلسلاتها.
بين فينة وأخرى ومنذ عقد من الزمن، تخرج تصريحات من كبار مسؤوليها عن العقاب بما ارتكب من جرائم بحق السوريين أيّاً كان مرتكبيها، وسيحاكمون على فعلتهم، ولكن ومع مرور الأيام والأشهر تصبح تلك التصريحات طيّ النسيان، كما وتصدر تقارير من كبرى مؤسسات دولية عن الجرائم المرتكبة والمطالبة بمحاسبة فاعليها، وكما سبق يصبح في خبر كان.
السوريون لم يعد يعنيهم كل ذلك، لأنهم على قناعة، أن كل تلك التصاريح والتقارير ليست سوى فقاعات سياسية وأساليب تحذيرية تستخدمها تلك الدول للضغط على بعضهم البعض للحصول على مكاسبة ونفوذ، ولا وجود لحماية السوريين وإنهاء معاناتهم في كل تلك القواميس، فقط حماية مصالحهم ومناطق نفوذهم.
كما ويغفل السوريون إلى ما يتم تداوله من قبل الدول الإقليمية عن وقوفهم إلى جانب الشعب السوري في معاناتهم وتقديم كل ما يلزم لمساعدتهم، ولكن كل تلك المتداولات لا تدخل في خانة الصدق في التعامل مع الملف السوري ودعمهم في إنهاء أزمتهم. في كل عام تعقد الدول المانحة لجمع الأموال للسوريين، ولكن ما يتم تجميع والتي تصل إلى المليارات من الدولارات لا تصل إلى المواطن السوري بل تصل إلى جيوب النهابين والسراقين والقتالين، ولو لم تكن كذلك فـ "لماذا" أربعة عشرة مليون سوري يعيشون تحت خط الفقر؟
تركيا التي صدقها السوريون منذ بداية الأزمة حتى وصل بهم إلى وضع مصيرهم تحت رحمة السياسات التركية. الأخيرة لم تدخر أي جهد في استغلال غفلة السوريين لتمرير مآربها وطموحاتها العثمنلية في المنطقة، حتى وصل بها الأمر بتوجيه بوصلة المعارضة السورية وما يسمى جيشها الحر نحو إخوتهم الكورد، وترك النظام يسرح ويمرح على كامل الأرض السورية الذي تفنن في أساليب القتل والتدمير واختراع ألوان جديدة للأسلحة وتجربتها على شعبه، من البراميل المتفجرة إلى استخدام قنابل عنقودية واسلحة كيمياوية، لم تسلم بلدة أو مدينة من تلك الألوان أمام إلتهاء المعارضة بما تملي عليها تصريحات وقرارات تركية.
كما استغلت تركيا حاجة الشباب السوري إلى العمل لإطعام عائلاتهم وأهاليهم، بصرف رواتب مالية تحت مسمّى مساعدات إنسانية التي هي بالأساس أموال المانحة للسوريين مقابلة تحويل هؤلاء الشباب إلى مرتزقة وميليشيات لترهيب السوريين ومحاربة الكورد السوريين بدلاً أن التوجه نحو محاربة النظام واسقاطه.
بالتزامن مع الحرب الروسية الأوكرانية أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريراً عن الانتهاكات المرتكبة من قبل النظام ضد شعبه، وكأنهم لم يكونوا موجودين خلال السنوات الماضية وأنهم لم يكونوا على علم، وكأنهم اكتشفوا هذه الحقيقة الآن.
كذلك ما يصرح به الرئيس التركي أردوغان عن إعادة مليون لاجئ سوري إلى داخل سوريا طوعا، ألا يفكر أردوغان ما هو المبرر لتلك العودة وهل هناك في الداخل السوري أرضية ملائمة لعودة السوريين؟ وهل انتهى النظام وما يجري هو المرحلة الانتقالية؟ أليست تلك التصريحات التي يطلقها أردوغان تفوح منها رائحة الخباثة والدنائة، وهل يصدق المجتمع الدولي ما يهلوس به أردوغان أم هم شركاء معه في هذه الجريمة، جريمة التغيير الديمغرافي تحت مسمى توطين اللاجئين في مناطق غير مناطقهم، ألا يعني تلك السياسة خرقاً للقانون الدولي والقانون الإنساني منفذها أردوغان وشهودها الدول الكبرى والإقليمية.
إذاً، وبعد مرور كل هذه السنوات، ألم يحن الوقت لكي تلتئم جراح السوريين؟، وينتهي هذا البلاء الذي دمّر كلُّ شيء حي. أم هل من المعقول التفاوض مع هذا النظام بعد أن حوَّل سوريا إلى أرض أشباح، تجوب أجوائها رائحة الموت والدمار، مدنٌ كاملة سوت مع الأرض، أرواح العذابة والثكالة تحوم في أرجائها، والإنسانية ماتت جنيناّ في رحم المقايضات الدولية.