الشَر القادم من الشرق

الشَر القادم من الشرق

محمد رجب رشيد

مع نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت القِوى العظمى بالانسحاب من منطقة الشرق الأوسط بعد أنْ ساهمت في ولادة دولة إسرائيل، وخلَّفت وراءها دول مستقلِّة ذات حكومات تابعة لها بشكل من الأشكال. وكلّفت شاه إيران بلعب دور شرطي الخليج لحماية مصالحها في المنطقة. في العام ١٩٧٥م غدر شاه إيران بالثورة الكوردية بإبرام إتفاقية الجزائر المشؤومة مع العراق، وكان قد وقعّها عن الجانب العراقي صدام حسين الذي كان نائباً للرئيس. ولكِنّ عدالة السماء أبتْ إلّا أن تقول كلمتها، لقد وقع طرفا الاتفاقية في شرِّ أعمالهما، ففي العام ١٩٨٠م وبعد سنة من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ألغى صدام حسين إتفاقية الجزائر من طرف واحد، وأعلن الحرب على إيران، استمرت ثماني سنوات ثم عادت إلى نقطة البداية بخسارة الطرفين دون انتصار أحدهما على الآخر. وجاءت مغامرة احتلال الكويت على أثر إفلاس صدام حسين بنهاية حربه مع إيران، تلاها حرب تحرير الكويت من قِبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، تلك الحرب غيّرت وجه المنطقة بالتزامن مع الأحداث التالية:
- اعتماد مجلس الأمن القرار رقم ٦٦١ الصادر في ٦ آب عام ١٩٩٠م بعد الغزو العراقي للكويت بأيام، القاضي بفرض حظر تجاري شامل على العراق باستثناء الإمدادات الطبية والمواد الغذائية.
- صدور قرار مجلس الأمن رقم ٦٨٨ تاريخ ٥ نيسان عام ١٩٩١م، الذي طالب العراق بالكف عن ملاحقة واضطهاد الشعب الكوردي واحترام حقوق الإنسان في شمال العراق، تلاه فرض منطقة حظر جوي بين خطي العرض ٣٦ شمالاً و ٣٢ جنوباً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن السابق. لقد أدّى القراران إلى زوال خطر صدام حسين على دول وشعوب المنطقة، وذلك بخلع أنيابه وتقليم مخالبه وقصقصة أجنحته.
- التواجد الدائم لقوات التحالف في منطقة الخليج بعد تحرير الكويت، وانشاء قواعد ثابتة لها مازالت قائمة إلى يومنا هذا.
- تفكُّك الاتحاد السوفيتي في ٢٦ تشرين الثاني عام ١٩٩١م، والاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة.
إيران ما بعد الحرب لن تكون كما قبلها، لقد تخلّت عن لعب دور شرطي الخليج بعد خلع الشاه، وقررت أنْ تلعب لنفسها لعبة الشطرنج (التضحية بالأقل أهمية للحفاظ على الأهم) مع الكُل بما فيهم الشياطين للمضيِّ قُدُماً بمشروع إحياء أمجاد الإمبراطورية الفارسية على حساب شعوب ودول المنطقة، مستغلِّة بعض الأحداث المذكورة سابقاً، ومستفيدة من غياب أي مشروع عربي لمستقبل المنطقة، والولاء الأعمى لأبناء الطائفة الشيعية في دول المنطقة لها على حساب ولائهم الوطني، واستخدامهم فيما بعد كوقود لمشروعها. وكانت قد جلبت بعض العلماء والخبراء من الاتحاد السوفيتي السابق بعد انهياره للاستفادة منهم في التصنيع العسكري والبدأ بالبرنامج النووي. وللعِلم جماعة الإخوان المسلمين كانت على صِلة مع الخميني منذ ما قبل الثورة، باركت بالثورة بعد قيامها، ومازالت على تواصل مع قيادتها إلى الآن.
يُخطئ من يظن أنّ المشروع الإيراني مشروع شيعي، إنّه مشروع فارسي بامتياز، يستخدم الشيعة والسُنَّة كوقود له.
سأل أحد الصحفيين وزير خارجية إيران كمال خرزاي بعد سقوط بغداد في العام ٢٠٠٣م: لقد سقطت بغداد، وجاء الدَور على طهران لتسقط هي الأخرى، فماذا أنتم فاعلون؟ أجابه: إنّ ما حدث في العراق لن يتكرّر في إيران، أخطأ صدام حسين عندما حارب أمريكا على أبواب بغداد، أمّا نحن سنحاربها على أبواب بيروت ودمشق! في إشارة واضحة إلى مدى انتشار نفوذ إيران.
بالفعل كانت البداية من لبنان مع تنصيب حسن نصر الله أميناً عاماً لحزب الله عام ١٩٩٢م خلفاً لعباس موسوي، بدأ نشاطه العسكري بمحاربة حركة أمل الشيعية لِتحييدها مع حلفائها في المقاومة الوطنية اللبنانية آنذاك ضد إسرائيل، بهدف حصر المقاومة المزعومة بنفسها فقط، تمهيداً للسيطرة على قرار السِلم والحرب في لبنان، وصولاً إلى تعطيل الدولة كما هو حاصل الآن، والإبقاء عليها كرهينة بيد إيران للمساومة عليها مع أمريكا.
يقوم المشروع الفارسي على زرع أذرع مُسرطنة في جسد الدول لسهولة تفكيكها والسيطرة عليها، وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة بِإتّباع جميع السُبل المُتاحة بما في ذلك دس السُّم في العسل وتقديمها إلى الآخرين على طبق من الفضة، تمهيداً للتدخل في شؤونهم بإقامة مراكز التشيُّع وبناء الحسينيات في المناطق النائية والفقيرة، مع بعض المعونات المادية مقابل تشيُّعهم ليكونوا قنبلة موقوتة تفجِّرها إيران عند اللزوم لخلق أزمات تتفاوض عليها فيما بعد مع القِوى العظمى لِحل مشاكلها على حساب شعوب المنطقة. والأخطر من كل ما سبق هو دعمها لأحزاب وجماعات -موجودة أصلاً- ومدِّها بالمال والسلاح حتى تصبح أقوى من جيوش دولها، وتعمل على تعطيل مؤسساتها، فتصبح دول مشلولة وفاشلة بكل المعايير ثم إلغائها تماماً، وفرض نفسها بقوة السلاح كبديل عنها والسيطرة على مركز صنع القرار، كما هو حاصل الآن في لبنان واليمن والعراق. إنّ اليد الذي يصافح إيران ولو لمرّة واحدة لا يمكن سحبه بسهولة متى شاء صاحبه، وإنْ تمكّن من سحبه لن يكون سليماً مُعافى، كما هو الحال مع حزب العمال الكوردستاني الذي رهن قراره لإيران، ويحارب المشروع الكوردي أينما كان. لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لحركة حماس التي وضعت يدها بيد إيران منذ أكثر من عقدين، ومازالت على خلافٍ حاد مع حركة فتح، لا تعترف بدولة إسرائيل مِمّا تجعل من نفسها حجر عثرة أمام قيام الدولة الفلسطينية. أمّا سوريا فلم تكن علاقتها مع إيران على حساب علاقتها مع الدول العربية وخاصة السعودية في عهد الأسد الأب، وكانت الكفة راجحة لصالحها. إلّا أنّ الوضع تغيّر جذرياً في عهد الأسد الأبن وخاصة بعد عام ٢٠١١م وتدخّل إيران بكل ثقلها لإنقاذ النظام من السقوط. والعراق ليس بأحسن حال بعد إهدائه لإيران من قبل أمريكا قبل الإنسحاب منه، تديره كيفما تشاء، ولها حصة من جيشه المتمثِّلة في ميليشيات الحشد الشعبي التابعة لها، تأتمر بأوامرها دون العودة إلى قيادة الجيش العراقي على غِرار حزب الله اللبناني. وتشن بين الحين والآخر هجمات صاروخية على مقر البعثات الدبلوماسية في بغداد وعلى إقليم كوردستان بأوامر مباشرة من إيران. لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لليمن.
ولتأكيد صدارتها على لائحة وزارة الخارجية الأمريكية للدول الداعمة والراعية للإرهاب، قامت إيران بدعم ورعاية تنظيم القاعدة -وداعش فيما بعد- لتوجيهها إلى حيث تشاء. وأكّد ذلك طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي سابقاً حيث قال: أثناء زيارتي لإيران قدّمت للمسؤولين هناك الأدِلّة القاطعة على دعم إيران لتنظيم القاعدة في تنفيذ العمليات الإرهابية في العراق، لم يستطيعوا إنكاره فقط قاموا بتبريره ووضعه في سياق محاربة الوجود الأمريكي في المنطقة. ليس هذا فحسب بل كان العدناني المتحدث باسم داعش -قبل قتله في شمال حلب عام ٢٠١٦م) قد قال على قناة العربية: كنا نطلب من الظواهري السماح بتنفيذ عمليات داخل إيران، إلّا أنّه كان يرفض، ويبرر رفضه بكون إيران تساعدهم في نقل المجاهدين والأسلحة من أفغانستان إلى العراق، وتقيم لهم معسكرات تدريب وإيواء على أراضيها، ثم أضاف العدناني: حتىّ بعض القادة الميدانيين يتم تعيينهم من قبل الحرس الثوري الإيراني.
لنعُد إلى الأذرع الطويلة لإيران وهي كثيرة، أهمُّها حزب الله اللبناني وحزب الدعوة العراقي، الّلذان نفَّذا الكثير من العمليات الإرهابية في العالم بأوامر مباشرة من إيران، نذكر بعضها: سلسلة تفجيرات الكويت عام ١٩٨٣م، ومحاولة اغتيال أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح عام ١٩٨٥م، وتفجير المركز الثقافي اليهودي في عاصمة الأرجنتين بيونس ايروس عام ١٩٩٤م، واغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري عام ٢٠٠٥م، وتفجير حافلة تقلُّ سيّاح يهود في بلغاريا عام ٢٠١٢م، و ... والقائمة تطول.
إنّ اكتفاء أمريكا بالقيادة من الخلف فيما يخُص منطقة الشرق الأوسط، وإدارة الأزمات دون إيجاد حلول عادلة لها كقضية فلسطين والقضية الكوردية، وغض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الأنظمة الشمولية، يشجِّع إيران للقيام بدور تخريبي في المنطقة. تجلّى ذلك بوضوح في عهد الرئيس السابق أوباما مهندس الاتفاق النووي عام ٢٠١٣م بين إيران ومجموعة الدول الخمسة زائد الأمم المتحدة والتي جاءت على حساب أمن شعوب المنطقة، حيث منح إيران مزايا الدولة النووية دون امتلاك السلاح النووي، وذلك بإطلاق يدها في المنطقة للتدخل في شؤونها والعبث بأمنها واستقرارها.
يتضِّح مِمّا سبق أنّ خطر إيران يتجاوز حدود المنطقة إلى جميع أنحاء العالم في حال امتلكت السلاح النووي أو تُرِكتْ دون رِقابة وعقاب. إنّ نجاح مشروعها لا بدّ أن يشجع تركيا هي الأخرى على المضي قُدماً في مشروعها العثماني. على أمريكا والعالم الحُر أن تمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، وأنْ تعلم أنّ ثمن التدخُّل لإنقاذ العالم من شَرِّها أقل بكثير من ثمن عدم التدخُّل.