العلاقات المشبوهة بين القوى العظمى والجماعات التكفيرية
حسن قاسم
في عالم السياسة، لا شيء يحدث مصادفة، ولا أحد بريء من لعبة المصالح، من أفغانستان إلى العراق وسوريا، تتكرر القصة ذاتها: جماعات تُغذّى فكريا وتُموَّل ماليا لتخدم أجندات خفية، ثم تُرمى حين تنتهي صلاحيتها.
وفي خضمّ هذا المشهد، يبقى السؤال الأخطر، هل القوى العظمى هي من تحارب الإرهاب، أم من تصنعه؟ ومن يدفع الثمن غير الشعوب، والأقليات، والمضطهدين (بفتح الهاء)؟
منذ بدايات القرن العشرين، لم يكن ظهور الجماعات التكفيرية محض مصادفة أو نتاج بيئة دينية متشددة فحسب، بل نتيجة مباشرة لاستخدام القوى العظمى الدين كأداة سياسية.
فقد أدركت بريطانيا باكرًا أهمية التيارات الإسلامية في اختراق المجتمعات المستعمَرة، فدعمت تنظيم الإخوان المسلمين منذ نشأته، لتواجه به تصاعد المدّ القومي واليساري الذي كان يهدّد مصالحها في الشرق الأوسط.
مع مرور الوقت، تحوّل التنظيم إلى ذراع فكرية تتقاطع مع الأجندات الغربية في محاربة الأنظمة الوطنية والتقدمية، فيما بقي الخطاب العلني يرفع شعار «النهضة الإسلامية».
جاءت الولايات المتحدة لتكمل الدور البريطاني في ثوب جديد، فخلال الحرب الباردة، موّلت واشنطن ومعها بعض دول الخليج الجماعات الجهادية في أفغانستان، تحت شعار “مقاومة الشيوعية”.
لكن تلك الجماعات – التي دعمتها الـCIA بالمال والسلاح – تحوّلت لاحقًا إلى نواة تنظيم القاعدة، ومنها خرجت لاحقًا “داعش” ونسخها المتطرفة.
في سوريا والعراق، تكرّر المشهد ذاته؛ تمويل وتسليح وتسهيل عبور لعناصر متطرفة تحت غطاء «الثورة»، قبل أن تنقلب تلك التنظيمات على الجميع وتغرق المنطقة في الفوضى.
تقاطعت مصالح بعض الأنظمة الخليجية مع السياسة الأمريكية في استغلال الجماعات التكفيرية لتحقيق توازنات ضد الخصوم الإقليميين، خصوصًا إيران.
لكنّ النتيجة كانت كارثية: تدمير ممنهج للدول والمجتمعات، وتشويه لصورة الإسلام، وتحويل المنطقة إلى مسرح دائم للحروب بالوكالة.
أما بريطانيا فواصلت لعب دور الظلّ، عبر فتح أراضيها لقيادات متطرفة أو لتوفير غطاء سياسي وإعلامي لجماعات مصنّفة إرهابية في بلدانها الأصلية.
لا يمكن تجاهل المفارقة الصارخة في تعامل واشنطن مع أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا)، الذي كانت وزارة الخارجية الأمريكية قد رصدت عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن مكانه، قبل أن يظهر لاحقًا في مقابلات إعلامية غربية بصفة «قائد معتدل»!
هذا التحوُّل ليس سوى تجسيد للمثل المعروف: «تسمين العجل قبل ذبحه» — إذ يُجري توظيف الجماعات التكفيرية في مراحل محددة لتحقيق أهداف سياسية، ثم يتم التخلص منها عند انتهاء دورها.
التاريخ الأمريكي يؤكد أن البراغماتية تتقدّم على المبادئ.
ورغم الدور المحوري الذي أدّته قوات (قسد) في هزيمة داعش، إلا أنّ احتمالية التضحية بها واردة إذا اقتضت المصالح الأمريكية صفقة مع تركيا أو إعادة ترتيب للخارطة السورية بما يخدم “الشرق الأوسط الجديد”. فسياسات واشنطن لا تقوم على التحالفات الدائمة، بل على المصالح المتغيرة.
ترفع القوى الغربية شعار «حماية الأقليات» لتبرير تدخلاتها في المنطقة، لكن الواقع يُظهر أن الأقليات كانت أول من دفع الثمن، من الكورد إلى المسيحيين واليزيديين.
فحين تُستخدم قضاياهم أداة ضغط لا هدفًا للعدالة، يتحوّل «الاهتمام الإنساني» إلى غطاء لتفكيك الدول وإعادة تشكيلها وفق مصالح القوى الكبرى.
التاريخ يكرر نفسه: كل الأنظمة التي مارست الظلم ضد الأقليات والشعوب المضطهدة انتهت إلى مزبلة التاريخ.
تجربة صدام حسين مع الكورد مثال صارخ على أن القوة لا تغني عن العدالة، وأن الشعوب التي تُقهر قد تنهض أقوى من قبل.
لقد أثبت الشعب الكوردي، في مختلف مراحل الصراع، أنه قوة استقرار لا تهديد، وأن الاعتراف بحقوقه القومية هو شرط لأي سلام مستدام في سوريا والمنطقة.
العلاقة بين القوى العظمى والجماعات التكفيرية ليست عرضًا عابرًا، بل نمطٌ متكرر من التوظيف والتلاعب. لكنّ من يصنع الوحش لا يستطيع السيطرة عليه إلى الأبد.
واليوم، فيما تُرسم خرائط الشرق الأوسط الجديد، يبدو أن الشعوب – لا القوى – هي التي ستدفع مجددًا ثمن هذا اللعب بالنار.
فلا أمن ولا استقرار دون عدالة، ولا عدالة دون اعتراف حقيقي بالتعددية، وبحق الشعوب – وفي مقدمتها الشعب الكوردي – في تقرير مصيرها بحرية وكرامة.