ملامح التغيير في الشرق الأوسط: من الفوضى إلى إعادة تشكيل الخرائط
أحمد آلوجي
منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، دخل الشرق الأوسط في مرحلة جديدة من الاضطراب الجيوسياسي، بدأت مع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، حين دشّن ما يمكن تسميته بمرحلة «الفوضى الخلاقة»
.
هذه الاستراتيجية، التي استمرت عبر إدارات متعاقبة في واشنطن، وبلغت ذروتها مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وسقوط نظام صدام حسين، لم تكن مجرّد أحداث متفرقة بقدر ما كانت جزءاً من مشروع طويل الأمد لإعادة صياغة ملامح المنطقة.
فقد شكّلت حروب العراق وأفغانستان، ثم التفاعلات التي رافقت "الربيع العربي"، حلقات متتابعة في مسلسل إعادة ترتيب القوى. الإدارات الديمقراطية في البيت الأبيض لم توقف هذه الاستراتيجية بقدر ما منحتها إيقاعاً مختلفاً، يميل إلى «التثبيط» أو الإدارة الناعمة للأزمات، بينما جاءت إدارة الرئيس دونالد ترامب لتعيد تسريعها بشكل صريح تحت شعار "تغيير وجه الشرق الأوسط".
هذا التغيير لم يكن محصوراً بالجانب الأمريكي فقط، بل اتخذ أبعاداً إقليمية ودولية معقدة. إذ برزت إسرائيل كفاعل مركزي مدعوم بشكل مباشر من واشنطن، وساهمت بعض الدول الخليجية، بطرق مباشرة وغير مباشرة، في بلورة موازين القوى الجديدة. تمثلت أبرز ملامح هذه المرحلة بمحاولات تقليم أظافر «دولة الملالي» في إيران عبر محاصرة أذرعها العسكرية في لبنان وغزة، والعمل على شلّ قدرتها في تصدير النفوذ الطائفي والعسكري. في المقابل، برزت سوريا كنموذج آخر لمشروع الإزاحة، إذ تعرض نظام البعث فيها لضغوط هائلة، داخلياً وخارجياً أدى إلى سقوطه وانهياره، كجزء من إعادة ترتيب المعادلة الإقليمية.
من بين المحاور التي سعت الولايات المتحدة إلى استكمالها، محاربة تنظيم الإخوان المسلمين، الذين فقدوا قواعد ارتكازهم في مصر، ثم وُضعوا تحت الضغط السياسي والإعلامي في أماكن أخرى، حتى باتت قطر – وفق قراءات متعددة – أقرب إلى محمية أمريكية مُقنّعة، تُدار مع مراعاة توازنات دقيقة مع الجوار الخليجي. أما تركيا، فقد تلقت إشارات متكررة عبر إسرائيل نفسها، التي لعبت دوراً في منع أنقرة من تثبيت حضور عسكري مباشر في سوريا، ما اعتُبر رسالة مبطّنة تحدّ من طموحاتها الإقليمية.
وسط هذه التحولات المتسارعة، يبرز سؤال محوري: هل الشعوب، ولا سيما الشعب الكردي، مهيأة لالتقاط هذه الإشارات والتعامل مع نتائجها؟ التجربة الكردية في العراق تبدو دالة في هذا السياق. فإقليم كوردستان، الذي أرسى ركائز حكم ذاتي راسخ بعد عام 1991، وصل إلى محطة مفصلية عام 2017 بإجراء استفتاء حول تقرير المصير بقيادة الرئيس مسعود بارزاني. ورغم ما واجهته تلك الخطوة من معارضة إقليمية ودولية، إلا أنها كشفت إدراكاً كردياً بأن المشهد الإقليمي مقبل على تغييرات جذرية تجعل الحدود الموروثة عن اتفاقية سايكس–بيكو أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
إنّ إعادة تشكيل المنطقة، بما تحمله من صراعات معلنة وأخرى مستترة، لا تعني بالضرورة انهيار الأنظمة القائمة دفعة واحدة، لكنها تشير بوضوح إلى انفتاح مرحلة جديدة تتجاوز «الفوضى الخلاقة» إلى ما يشبه إعادة رسم الخرائط. هذه الخرائط لن تُرسم فقط بأقلام القوى الكبرى، بل ستتأثر كذلك بقدرة الشعوب على توظيف لحظات التحوّل لصالح قضاياها الوطنية.
بالنسبة للكرد، فإن موقعهم الجغرافي وتاريخهم النضالي، إلى جانب التجربة السياسية المتراكمة في إقليم كوردستان تجعلهم أمام فرصة تاريخية لاقتناص دور أكبر في المعادلة المقبلة. غير أن نجاحهم في ذلك مرهون بوحدة موقفهم الداخلي أولاً، ثم بقدرتهم على بناء شبكة تحالفات إقليمية ودولية تواكب حجم التغيير الجاري.
في المحصلة، تبدو المنطقة اليوم وكأنها على أعتاب «شرق أوسط جديد» ليس بالضرورة ذاك الذي بشّرت به واشنطن في التسعينيات، بل نسخة أكثر تعقيداً منه، تتداخل فيها المصالح الأمريكية والإسرائيلية والخليجية، وتتقاطع مع مشاريع إيرانية وتركية متنافسة. في خضم هذا المشهد، يظل الشعب الكردي أمام استحقاق مصيري: إما أن يكون جزءاً من التغيير القادم، أو أن يجد نفسه على هامش خرائط تُرسم من جديد دون حضوره الفاعل.