أزمة الوعي السياسي في زمن الخوارزميات

أزمة الوعي السياسي في زمن الخوارزميات

تورين شامدين
في عالم يتسارع فيه تدفق المعلومات أكثر مما تتسارع فيه قدرتنا على التفكير، تتجلى أزمة الوعي السياسي بوصفها أحد أخطر أعراض زمن الخوارزميات. فمع تضخم الفضاء الرقمي وتراجع الفضاء الفكري، لم يعد الناس يبنون أفكارهم على مبادئ أولى نابعة من التأمل أو التحليل، بل على ما تمنحه لهم الجماعات من شعور بالهوية والانتماء.

في السياسة كما في الاجتماع، الفكرة ليست مجرد رأي، بل بطاقة انتماء، وموقع داخل خريطة النفوذ والمكانة. لذلك، لا يكون تغيير الرأي مجرد تحول فكري، بل مغامرة تهدد توازن الإنسان الاجتماعي والنفسي.

هكذا تتحول المواقف السياسية إلى انعكاس للانتماء أكثر مما هي نتاج للتفكير. الدفاع عن الفكرة لا يكون دفاعاً عن منطقها، بل عن الذات التي تتماهى معها. والخصومة السياسية لا تكون صراعا بين الرؤى، بل بين الهويات. من هنا، نادرا ما يغير الناس قناعاتهم بالحجج العقلية وحدها، فالعقل لا يعمل في الفراغ، بل داخل منظومة من الرموز والمصالح والعواطف.

في زمن الإعلام الرقمي، تزاوجت السياسة مع الخوارزميات لتصنع واقعا جديدا: الحقيقة لم تعد معيارا، بل ما يتكرر أكثر يصبح الأصدق في الوعي الجمعي. السوشال ميديا لا تكافئ المضمون، بل الانفعال، والفكرة التي تثير الغضب أو الخوف أو الحماسة تتصدر المشهد وتروج كأنها يقين.

في هذا المناخ، يفقد النقاش معناه، ويتحول إلى ساحة استعراض جماعي حيث يسعى الجميع إلى الانتصار الرمزي لا إلى البحث عن الحقيقة. لقد أصبحنا نعيش عصرا لم تعد فيه الكلمة تقاس بصدقها، بل بمدى قابليتها للتداول، فيتحول التكرار إلى سلطة جديدة تحكم وعي الجماهير.

في ظل هذا المشهد، لا تكون القيمة الحقيقية للنقاش السياسي في إقناع الخصم المباشر، بل في التأثير على الفئة الصامتة، الجمهور المتردد، أولئك الذين لم تنغلق بعد أمامهم نوافذ الوعي. هؤلاء هم المجال الحيوي لأي خطاب عقلاني. أما من غرق في أيديولوجيته حتى النخاع، فإن النقاش معه يصبح عبثا، بل خطرا، لأنه يمنحه شرعية رمزية هو يسعى إليها أكثر من الحقيقة نفسها.

ليس كل فكرة تستحق النقاش. بعض الطروحات السياسية والعقائدية ليست سوى إعادة تدوير للكراهية أو تبرير للظلم. منحها مساحة في النقاش العام يعني الإقرار بها كخيار مشروع. فالديمقراطية لا تكتمل بتوسيع فضاء الحوار فقط، بل بوضع حدود للتسامح تحمي المجتمع من تسلل الكراهية والتنكر لقيم الحرية باسم الحرية ذاتها. في المقابل، هناك قضايا تستوجب المواجهة الصريحة، مثل الحرية، والعدالة، وحقوق الشعوب، لأن الصمت عنها يفتح المجال أمام التطرف ليستولي على الوعي الجمعي. فالصراع في جوهره ليس بين أفكار متباينة، بل بين أنماط من الشرعية: شرعية تقوم على المعرفة والوعي، وأخرى على الجهل والانتماء الأعمى.

من هنا، يصبح النقاش السياسي فعلا استراتيجيا لا مجرد واجب أخلاقي. أحيانا يكون الصمت تكتيكا لحجب الضوء عن العبث، وأحيانا يكون الكلام ضرورة لفضح الزيف. الحكمة ليست في الدخول في كل معركة كلامية، بل في معرفة متى يكون النقاش وسيلة للتنوير، ومتى يتحول إلى أداة لتكريس الخداع.

تغيير القناعات في المجتمعات لا يتحقق عبر مناظرات متكررة، بل عبر بناء بيئة ثقافية وتعليمية وإعلامية تجعل الحقيقة ممكنة الظهور. لا يمكن للوعي السياسي أن ينضج في ظل أنظمة تكرس الانتماء وتكافئ الولاء، بل عبر مؤسسات تعلم النقد لا الطاعة، والمساءلة لا التمجيد، والمواطنة لا التبعية.

إن السياسة في معناها الأعمق ليست صراعا على السلطة فقط، بل على الوعي ذاته. من يملك أدوات تشكيل الوعي يملك المستقبل، ومن يحتكر تفسير الحقيقة يفرض شروط اللعبة. لذا، فإن مسؤولية النخب والمثقفين والسياسيين الحقيقيين ليست في ملء الشاشات بالتصريحات، بل في حماية العقل الجمعي من التلوث.

في زمن تختلط فيه الحقيقة بالضجيج، يصبح الوعي السياسي فعل مقاومة، مقاومة للسطحية، وللانفعال، وللهويات المصنوعة رقميا. فالمجتمعات لا تنهض عندما تتكلم أكثر، بل عندما تبدأ بالإصغاء بوعي، لا بانفعال إلى ما يُقال، ومن يقوله.